دعوة الحزب الشيوعي السوداني لتكوين الجبهة الواسعة للإطاحة بالنظام موقف تاريخي أصيل منذ مطلع الاستقلال / سليمان حامد الحاج

دعوة

 سليمان حامد الحاج ( السودان ) الإثنين 30/12/2018 م …




نقول بكل الصدق إنه لو قدر للحزب الشيوعي أن يحكم ظروف ما بعد الاستقلال استوجبت توحيد كل القوى الوطنية التي ساهمت في النضال ضد الاستعمار البريطاني حتى أخرجته من البلاد. كان عليها أن تتوحد حتى تخرج الوطن وشعبه من النفق المظلم الذي وضعه فيه الاستعمار، والنضال سويا من أجل إحداث تغيير عميق في واقع البلاد الاقتصادي والاجتماعي والخدمي وبناء دولة وطنية ديمقراطية كاملة السيادة ومسيطرة على خيرات بلادها الوافرة والمتعددة وتفجير كنوز الثروة المطمورة في ثرى أرضه والتخطيط العلمي للانتاج الزراعي والصناعي والحيواني والخدمي لمصلحة الشعب وانفاق فائض ما يدره الإنتاج على التنمية التي هي حائط الصد لكل طامع في السيطرة على مواردنا. فمن لا يملك قوته لا يملك قراره.

إنه برنامج شاق لا يمكن أن يقوم به حزب واحد أو حزبان أو ثلاثة من مجموع عشرات الأحزاب والتنظيمات والشخصيات الوطنية التي أسهمت في النضال ضد الاستعمار وفي بلد شاسع ومترامي الأطراف أقرب للقارة.

البلاد وحده، فأنا واثق كل الثقة أنه سيفرض ذلك وسيدعو كافة القوى الوطنية أن تسهم معه في الحكم وعلى قدم المساواة، لأنَّ قضية بناء وتطور الوطن واستقرار شعبه قضية لا تقبل القسمة، ولأن الحزب الشيوعي ليس له مطامع ذاتية ولا مصالح شخصية فوق مصالح الشعب والوطن، ونتحدى من يقول غير ذلك.

قلنا هذا الكلام عندما دعا حزب المؤتمر الوطني ـ بعد المفاصلةـ الحزب الشيوعي للاجتماع معه في داره الواقعة قبالة مطار الخرطوم وحضرته معظم قيادات الحزب الشيوعي من المكتب السياسي، وحضره رئيس المؤتمر الوطني عمر البشير ونافع علي نافع، وإبراهيم أحمد عمر وغندور وغيرهم من الذين لم تسعفني الذاكرة لإيراد اسمائهم.

أطال البشير في الحديث عن الحزب الشيوعي عن وطنية ونزاهة اعضائه وبعدهم عن المطامع الخاصة. وذكر أنهم والحزب الشيوعي حزبان عقائديان أقرب للعمل سويا.

أوضحنا باسهاب الفرق بين ايديولوجيتي الحزبين وكذلك برامجهما، وأكدنا أن التطبيق العملي لسياسة النظام، أوضحت الهوة الشاسعة الفاصلة بين البرنامجين. وأوضحنا فوق ذلك من تجارب الاحزاب التي حكمت البلاد منذ الاستقلال بسبب الصراعات والمصالح الخاصة، وكونت فيها حكومات من حزبين وثلاثة.. الخ وفشلت في حل مشاكل الوطن وشعبه، وتجربتكم الماثلة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لن يكون مصيرها أفضل من سابقاتها.(هذا ما سنوضحه في هذا المقال).

غير أن أي سياسي فطن كان من السهولة بمكان أن يستنتج أن عقد هذا الاجتماع كان بمثابة كرت ضمن الكروت، التي يستبطنها المؤتمر الوطني للضغط على الحركة الشعبية لكسب سياسي لمصلحته.

لقد حكمت البلاد في الفترة 1954-2018م أكثر من خمسين حكومة عسكرية ومدنية. حكمت الحكومات المدنية جميعها والبالغة خمسة عشر حكومة ما لا يزيد عن عشر سنوات فقط. وحتى هذه العشر سنوات لم يتجاوز عمر أطول حكومة منها عام وشهر وثمانية أيام هي الحكومة القومية الثانية بعد ثورة أكتوبر. وأقصرها عمرا هي الحكومة القومية الأولى التي مكثت في الحكم شهرا واحدا.

حدث ذلك بسبب صراعات المصالح وما أفرزته من تحالفات، وكان ذلك عائقا مباشرا أمام مسيرة التطور والبناء لسودان ما بعد الاستقلال.

كتب الشهيد عبدالخالق محجوب” كان النصر الأول للشعب حينما استقلت بلادنا وخرجت جحافل المستعمرين. وقد دفع الشعب في هذا ثمنا غاليا وليس كما يقول مُزيِّفو التاريخ والمحقرون لشعبنا من أن الاستقلال جاء “هبة ومنحة” لنا. لقد استشهد أجدادنا وأباؤنا وهم يحملون علم الاستقلال في كرري، وسقط شهداؤنا في الحلاوين وواجه الرصاص وطنيون عام 1924 ثم شهداء الجمعية التشريعية الابطال. لقد كتب وطننا كراهيته للمستعمرين بالدم والتضحية.”.

(راجع معالم في تاريخ الحزب الشيوعي. د.محمد سعيد القدال).

وخرج المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الذي انعقد بعد شهر من الاستقلال ببرنامج شمل على رأس ما شمل، استكمال مهام ما بعد الاستقلال السياسي بالتطور الديمقراطي والاستقلال الاقتصادي والنهضة الثقافية. وركز المؤتمر على ايجاد السبل الكفيلة بدفع النشاط السياسي للجماهير ووحدتها لانجاز هذه المهام. وأكد أن الاستقلال ما هو إلا خطوة نحو تحسين حياة الناس ولن يتحقق هذا إلا بتنفيذ برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية. كذلك احتلت قضية الديمقراطية حيِّزا متقدما في ذلك البرنامج مؤكدة أن أي تقدم في هذا الصدد مستحيل بدون حركة جماهيرية واسعة وفعالة.

في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي مثابرا في دعوته إلى الوحدة الوطنية وضرورة وقف صراع المصالح بين الأحزاب والذي لا يخدم سوى مطامع الاستعمار وعملائه، الشيئ الذي يهدد استقلال البلاد وتنميتها وتطورها.

انطلاقا من كل ذلك أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني بيانا في 15 يونيو 1956 جاء فيه” أن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها البلاد من جراء الانقسام الراهن بين القوى الوطنية تدعونا لمخاطبتكم بضمير مخلص لخلق الظروف الملائمة لتخفيف حدة التوتر القائمة الآن وايجاد نقاط اتفاق مشتركة تدفع بعوامل الانقسام إلى الخلف؛ مما يساعد بدوره على بناء وحدة وطنية تحمي الوطن وتعزز استقلاله.

إننا ننظر بعين القلق إلى المصير المظلم الذي يمكن أن تصل إليه بلادنا العزيزة إذا ما قدر لحالة الانقسام الراهنة أن تستمر”. وضمن المكتب السياسي بيانه بمشروع ميثاق جاء فيه:

أولا: عدم تغول معسكر أو طبقة في الاستئثار بمفاخر الجهاد من أجل الاستقلال.

ثانيا: احترام العقائد والمذاهب والانتماءات الحزبية، ومساواة الجميع في الحقوق الديمقراطية والسماح للجميع بممارسة نشاطهم دون اضطهاد قسم بسبب العقيدة والمذهب والإنتماء الحزبي.

ثالثا: السعي لإيجاد نقاط إتفاق بين جميع الأحزاب والهيئات والطوائف على أساس المبدأ الأساسي وهو تعزيز الاستقلال السياسي”.

وفي يوليو 1956 بعث حزب الجبهة المعادية للاستعمار”الحزب الشيوعي فيما بعد بمذكرة إلى رؤساء الاحزاب واعضاء البرلمان تدعوهم إلى تكوين حكومة قومية لتواجه مرحلة تعزيز الاستقلال الوطني والدفاع عنه وصيانته. وترى المذكرة أن إبعاد العمال والمزارعين وحزب الجبهة مهما كان حجمهم أمر خطير، لأن المهم هو مضمون الوحدة الذي سيؤدي انعدامها إلى انقسامات أكثر حدة وأبعد عمقاً في المستقبل”.

في 27 يناير 1958 أصدرت سكرتارية الجبهة المعادية للاستعمار بيانا إبان المعركة الانتخابية جاء فيه:

“دخلنا المعركة الانتخابية لتوحيد القوى الوطنية في أحزابها وهيئاتها لهزيمة خطط التدخل الاستعماري. ليست القضية هي في نظرنا اليوم هي هزيمة حزب الشعب الديمقراطي أو الوطني الإتحادي، وإنما توحيد الحزبين لتأييدنا في هذه القضية الشريفة التي تمثل مصالح بلادنا الوطنية بدلا من دعوتنا لتعميق الانقسام في المعسكر الوطني، بانحيازنا إلى جانب ضد آخر، فالحزبان في نظر الجبهة وطنيان بنفس المستوى”.

وفي 12 مارس 1958 أصدرت الجبهة المعادية للاستعمار بيانا في نفس الإتجاه جاء فيه:

“إننا نطلب منكم يا مؤيدي حزب الشعب الديمقراطي والوطني الإتحادي أن ترفعوا أصواتكم عالية إلى جانبنا مطالبين بالوحدة فورا بين نواب الحزبين داخل البرلمان وجماهيرهم في الخارج. إن السبب الأساسي لهزيمة القوى الوطنية في الانتخابات يرجع إلى تفككها وتشتتها وعدم دخولها المعركة في جبهة واحدة”.

لقد أدرك الحزب الشيوعي منذ وقت طويل إن الوحدة الوطنية هي الضمان لتعزيز الاستقلال وحماية السيادة الوطنية . وصدق ما قاله الحزب الشيوعي عندما صار استقلال الوطن في كف عفريت، بدخول الولايات المتحدة الامريكية معترك الحرب الباردة بعدة أسلحة منها الأحلاف العسكرية مثل حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد. وكان أكثرها تهديدا للسودان(مشروع ايزنهاور) فجاء نائب الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون الى السودان ليبشر بذلك المشروع، فقام الحزب الشيوعي بتعبئة الشارع ضد تلك الزيارة وفي يوم وصوله خرجت المظاهرات تهتف(عد إلى بلادك يا نيكسون) وملأ الشارع العاصمي بالبيانات والملصقات على الأعمدة والجدران. فأصدرت الحكومة تهديدا في بيان اتهمت فيه(حفنة من الشيوعيين بتهديد الأمن والاستقرار)فأضطر نيكسون أن يعقد اجتماعا مغلقا على عجل مع بعض الوزراء ويعود أدراجه.

أما المعونة الامريكية فعارضها الوطني الإتحادي الذي كان يقف في المعارضة داخل البرلمان. كما عارضها بعض نواب الحكومة . وأصدرت الجبهة المعادية للاستعمار بيانا أدانت فيه المعونة الامريكية ووصفتها بأنها الكارثة التي حلت بلبنان والعراق والاردن، وأنها أكبر خطر يهدد استقلال البلاد ،  فـصبح من الضروري التوحد لتعريتها وهزيمتها، وناشد البيان الشعب أن يضغط على نوابه في البرلمان للتصويت ضدها، وشاركت نقابة المحامين في الحملة، ولكن البرلمان أجازها في جلسته بتاريخ 3/6/1958 بأغلبية 104 ضد 57 فقد وقف معها حزب الأمة والشعب الديمقراطي وعارضها الوطني الإتحادي وانقسم النواب الجنوبيون بين الكتلتين وعقب ذلك مباشرة أعطت الحكومة البرلمان عطلة ، لأن سحائب المعارضة أخذت تتجمع ضدها وبات مؤكدا اذا اجتمع البرلمان سيسحب منها الثقة. وبقى البرلمان في عطلة ولم يجتمع بعد ذلك أبداً.(راجع نفس المصدر)

الآن فأن المخاطر التي تحيط بالوطن واستقلاله في ظل سلطة شريحة طبقة الرأسمالية الطفيلية والتي وصلت حد السماح لوكالة المخابرات الامريكية بإقامة محطة لها في البلاد، وسلمت مقود الاقتصاد للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أهم الأدوات المنفذة لسياسة الرأسمالية العالمية، ودمرت خلال ثلاثين عاما من حكمها اقتصاده وجعلت السودان ضمن أفقر البلدان وضمن الأكثر فسادا، فأن وحدة كافة القوى الوطنية هي الأشد إلحاحا أكثر من أي وقت مضى لانقاذ ما يمكن انقاذه بإسقاط هذا النظام.

لقد ظل الحزب الشيوعي رافعا هذا الشعار المنادي بالوحدة الوطنية منذ فجر الاستقلال، يدعو الآن للوحدة والجبهة الواسعة التي تضم كافة القوى المعارضة لهذا النظام والعاملة بجدية وبلا مناورات لإسقاطه؛ والنداء موجه بشكل خاص إلى تلك الأحزاب التي لازالت ترفض الوحدة مؤكدين لهم أن (الهبوط الناعم) ليس إلا شكلا من أشكال خداع الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية التي تربصت بالبلاد منذ مشروع ايزنهاور وعبر المعونة الامريكية ليظل السودان بلدا تابعا عميلا لها وخنجرا ساما مغروسا في خاصرة البلدان المجاورة؛ ونناشدهم لليقظة وعدم ابتلاع هذا “الطعم القاتل للشعب” و”المدمر لتنمية” وتطور البلاد.

في هذا المنعرج الحاد والحاسم فلا التاريخ سيرحم المعادين لقيام الجبهة الواسعة لكل المعارضين للنظام ولا شعب السودان سيغفر لهم. كذلك أي محاولة لإجراء مساومة مع النظام ليكون جزءا من حكومة قادمة بعد انتصار الشعب فهي تعني إعفاء النظام من كل الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب بما فيها الاموال التي اكتنزوها داخل البلاد وخارجها وجرائم القتل التي ارتكبوها في دارفور والاغتصاب وحرق القرى والوديان، وكذلك المذابح التي أقاموها في كجبار وبورتسودان والنيل الازرق وغيرها من الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق الوطن.

الآن إذ مازال شهداء مظاهرات ديسمبر2018 التي عمت كل السودان وراح ضحيتها قتلى في العديد من المدن(لم تجف دماؤهم بعد) والجرحى والمعتقلين بما يعمق من اصرار شعب السودان على السير بانتفاضة حتى الإضراب السياسي والعصيان المدني وتحقيق الانتفاضة الشعبية التي تطيح بالنظام.

وليكن شعار المظاهرات: لا تردد، لا مساومة مع النظام، ومواصلة الانتفاضة حتى تحقق أهدافها. مستفيدين من التجارب الماضية ومصممين ألا تقف الثورة في منتصف الطريق بإسقاط النظام فقط، بل السير حثيثا وباصرار على تنفيذ برنامجها الكامل، باستئصال كل خوازيق التمكين اشخاصا وقوانين لبناء دولة وطنية ديمقراطية. والنصر معقود بلواء شعب السودان الباسل المغوار خاصة شاباته وشبابه الذين بادروا بقيادة المظاهرات، وفتحوا صدورهم للرصاص غير هيابين ولا وجلين. والمجد لهم في الخالدين.

قد يعجبك ايضا