أمراض عربية… أمتنا متواضعة القراءة… للأسف / د.فايز رشيد

 

 

د.فايز رشيد ( الأردن ) الجمعة 9/1/2015 م …

 

في البدء كانت الكلمة والقراءة: هي حبل التواصل مع الحياة، هي جسر التفاهم مع الحضارة والتاريخ والمعرفة والعلم… هي قبل كل شيء.. حياة.

أمتنا العربية ازدهرت حياتها الأدبية في العصر الجاهلي، ولهذا اشتهرت أسواق الشعر: عكاظ، مجنة وسوق ذي المجاز. جاء الإسلام وكانت الآية الكريمة التي ابتدأت بكلمة: إقرأ. النبي الكريم حض على طلب العلم ولو في الصين. الحض على المعرفة دعت إليه كل الأديان وكذلك الشرائع، من شريعة أورنامو مرورا بشريعة آشنونا وصولا إلى شريعة حمورابي، وكذلك البوذية. لعلني أستشهد ببعض ما قيل عن القراءة: عباس العقاد، صاحب العبقريات الخالدة، عن القراءة يقول، بانها تطيل العمر. أما الجاحظ فيصفها بـ»يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره». أما فرانسيس بيكون فيقول: «القراءة تصنع الرجال». مونتين يصف القراءة بأنها «الصديق الذي لا يخون طيلة الحياة».

من أجمل من كتب عن القراءة لويس أراغون، جان كوكتو (وأهمية ملء صفحته البيضاء.. لم يرد نيل الاعجاب ولكن أن يصدقه الآخرون) أندريه مالرو وغيرهم. ظل لوركا خالدا وذهب الذين أعدمـــوه وأســــيادهم إلى مزابل التاريخ، كان يلقي شعره في لحظة إعدامه… كان يردد: ما الإنسان من دون حرية يا ماريانا ؟ قوليلي.. كيـــف أستطيع حــــبك إن لم أكن حرا؟ كيف أهديك قلبي إن لم يكن ملكي؟ بابلو نيرودا، عندما جاء قطعان بينوشيت، بعـــد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور الليـــندي، يفتشـــون بيته بحثا عن السلاح؟ طردهم وقال جملته الشهيرة: سلاحي هو شعري. محمود درويش يخاطب الموت قائلا في رائعته الأخيرة «الجدارية»، وكأني به يرثو نفسه: هزمتك يا موت الاغاني… هزمتك يا موت الفنون جميعها.

أرنستو جيفارا الثائر الأممي الذي أعدمته السلطات البوليفية بدم بارد، وانكرت جثته حتى لا تكون محجا للناس.. كان شاعرا وكاتبا، لعل من أجمل قصائده: «ماريا العجوز» التي تكشف عن جوانب شخصيته. من مؤلفاته: «حرب العصابات، الإنسان والاشتراكية في كوبا، ذكريات الحرب الثورية الكوبية، الأسفار تكوّن الشباب والوعي، الإنسان الجديد». ولعل من أجمل ما كتب عنه، ما ألّفه الكاتبان غروس وفولف بعنوان: «احلامي لا تعرف حدودا». كل السابقين وغيرهم… مخلدون في التاريخ بفعل نتاجاتهم ومواقفهم، فكيف يمكن معرفة ما تركوه من دون قراءة؟

بعد ذلك، فلنجعل الحقائق والأرقام تتحدث عن نفسها، وعن نسب قراءة أبناء أمتنا، ومقارنة النسب مع مثيلاتها عند الشعوب والأمم الأخرى، معتمدا في ذلك على إحصائيات منشورة لكل من مؤسسة الفكر العربي، التقارير الثقافية العربية، تقارير إنمائية للأمم المتحدة عن العالم العربي، المكتبة المتنقلة، مؤسسة الشمس دوت كوم، وغيرها .

معدل قراءة الفرد العربي 6 دقائق سنويا، أو ربع صفحة من أحد الكتب. ما يطبع في العالم العربي مجتمعا 17 ألف كتاب في السنة. سوق الكتاب العربي بيعا وشراء لا يتجاوز الـ4 ملايين دولار سنويا. كل 300 ألف من العرب يقرؤون كتابا واحدا سنويا. نصيب كل مليون عربي هو 30 كتابا في السنة.

أما على صعيد الكتب المترجمة من لغات اخرى فإن: نصيب كل مليون مواطن عربي هو 4.4 كتاب سنويا. معروف أن الناشرين يطبعون من كل كتاب جديد (باستثناء كتّاب مثل هيكل وغيره) 2000 ـ 3000 نسخة في أكثر الحالات! معروف أن المؤلف العربي لا يتقاضى عن إبداعاته سوى بضع مئات (أو قليلا من الآلاف في أحسن الحالات) من الدولارات. للعلم كثير من المؤلفين يطبعون كتبهم على نفقتهم الشخصية.

نسبة الأمية في العالم العربي تبلغ 35% (55% من النسبة المذكورة للنساء). عدد مراكز البحث في العالم العربي مجتمعا حوالي 1500 مركز.

أما الكتب الأكثر مبيعا في معارض الكتب العربية، فغالبا ما تكون: كتب الأبراج، تعليم الطبخ، مذكرات وفضائح الفنانات والفنانين! كنت شاهدا على حادثة رأيتها بأم عينيّ، أتردد على سوق كبيرة بشكل يومي بحكم موقعها المجاور لمقر عيادتي، كان ذلك على أعتاب بداية عام جديد.. تبضعت وخرجت من السوق، لمحت صاحب المكتبة الموجودة في السوق، التي غالبا ما أتردد عليها لمعرفة الإصدارات الجديدة، يحمل نسخا كثيرة من كتاب، فجأة أحاطت به جموع غفيرة من الناس، اقتربت لمعرفة اسم الكتاب المتنازع على نسخه لأجد: أنه توقعات الأبراج عن السنة القادمة. كان الطلب على النسخ اكثر مما كان صاحب المكتبة يحمل.. سعر الكتاب بلغ حينها حوالي 25 دولارا، حملت نفسي وغادرت… بدون تعليق.

معروف أيضا، أن شهرين يقضيهما أحد هواة الغناء من الشباب العربي في برنامج متخصص للمواهب، كفيلان بإشهاره أكثر من كاتب عربي جاد يكتب منذ أربعة عقود، ويصبح غنيا بالمعنى المادي، في الوقت الذي يعاني فيه الكاتب العربي من ضيق أحواله المادية، وغالبا ما يتوفاه الله قبل استطاعته سداد ديونه الكبيرة. أذكر حادثة حقيقية جرت منذ سنوات: أن شاعرا عربيا (بدون ذكر الأسماء، رغم أن المعــــني دعا صحف بلده للتعريف بقضيته) في أحد الأقطار العربية، أعلن إضرابا مفتوحا عن الطعام في ـ المؤسسة المتخصصة بتجميع الكتّاب في ذلك البلد ـ لأنه لا يجد قوت عائلته، ولم يكن قد وجد عملا منذ وقت طويل.

نعود إلى النسب في الدول الأخرى: معدل ما يقرأه المواطن الامريكي 11 كتابا في السنة. أما البريطاني فـ8 كتب. الكيان 7 كتب. معدل الكتب التي تصدر في الكيان 40 ألف كتاب سنويا. نصيب كل مليون مواطن في الكيان على صعيد الكتب المترجمة 580 كتابا سنويا. معدل قراءة الأوروبي 200 ساعة سنويا. قيمة سوق الكتاب في دول الاتحاد الأوروبي 12 مليار دولار سنويا.

أذكر لسنوات طويلة (12 عاما) قضيتها على فترتين دراسيتين متباعدتين في موسكو ومينسك (إبان الحقبة السوفييتية، والفترة الثانية غادرت قبيل انهياره بعام واحد). خلال الفترتين كنت أرى المواطنين يقرؤون الكتب في الحدائق وفي المترو والباصات، رغم اكتظاظها، وفي كل الأماكن حيث يمكن القراءة وحيث لا يمكن.

في أسباب الظاهرة يمكن قول الكثير عن الظروف الموضوعية، يمكن القول: أسعار الكتب، التهاء المواطن بقوت عائلته، قلة دخله، الفضائيات الإنترنت، وقراءة الكتب الإلكترونية (هذه الأخيرة متدنية نسبتها في الوطن العربي أيضا)…. وغير ذلك من الأسباب التي نستعملها شمّاعة لتعليق تقصيراتنا عليها. يمكن قول وتعداد أسباب كثيرة، غير أن الأسباب بموضوعيتها النسبية بالطبع، لا ولن تلغي قصـــــورنا الذاتي عـــن متابعة ما يجري، من خلال النسب المتواضعة للقراءة في الوطن العربي! الأرقام مثلما قلت: تتحـــدث عن نفسها، أسوقها من دون تعليق سوى من أسف.. وحسرة… وحزن دفين كلما أتذكر السؤال: كم نحن مقصرون؟ خاصة في قراءتنا للاعداء الذين يقرؤوننا جيدا ويحفظوننا عن ظهر قلب… وهذا يلقي بظلاله على تساؤل آخر: كم يلزمنا لتحقيق الإنجازات والانتصارات في كافة المجالات؟ وكم نحن بعيدون عن مواكبة التقدم المعرفي إلا من قشوره وأشكاله لنبقى أسواقا لتقدم الآخرين.

 

قد يعجبك ايضا