خرافة المُثقّفين.. و ” نظامُ” تَهالُك دوافع الفكر (1 من 4) / د . بهجت سليمان


نتيجة بحث الصور عن بهجت سليمان

د . بهجت سليمان * ( سورية ) الثلاثاء 11/12/2018 م …

* السفير السوري السابق في الأردن …

     1▪ في كلّ دور تاريخيّ تعاود قضيّة الثّقافة و المثقّفين مشروعيّتها النّموذجيّة من بين سائر مختلف المشروعيّات التّاريخيّة السّياسيّة ، لارتباطها العضوي ، الحيويّ ، بالنّهضة الاجتماعيّة في المفاصل الكبرى لحركة التّاريخ العامّ أو ذلك المرتبط بظروف محدّدة تمرّ فيها الأمّة كاستثناء على المشروع التّاريخيّ العام ، الذي يفصل بين اتّصال حركة المنظومة الكلّيّة لمجتمع أو شعب ، في غضون أحداث كبيرة مفارقة ، تؤسّس للانعطافات السّياسيّة المفصليّة في الحقب النّوعيّة ، التي تكثّف من طبيعة و طرق الانتقال الحضاريّ للدّولة و المجتمع ، من واقع محدّد إلى أفق جديد لواقع مختلف ، يؤسّس لانتقالة شاملة على مستوى المنظومة الاجتماعيّة – السّياسيّة في حياة التّجمّعات الكبرى ، بأسمائها المختلفة ، التي تدخل في تشكيلة الأوطان و مستقبل الأفراد و الشّعوب .

     2▪ الظّاهرة الثّقافيّة عبارة عن بقعة الوعي التي تُفشيها ”الموضوعيّة” في جسم الوطن ، و هي لهذا ، و بسببه ، تكتسب أهمّيّتها و خطورتها الاجتماعّية و السّياسيّة عندما تعي ذاتها في دورها ”المنظّم” ، فتخلق بذلك إطاراً عامّا للوعي الاجتماعيّ ، كما تتقدّم بذاتها باستمرار في السّياسات العامّة ، فلا تترك مكاناً ، بحكم طبيعتها – تلقائيّاً – و بحكم ممارساتها الموجّهة و المنظّمة ..

      و من هنا اكتسبت ”الثّقافة” و اكتسب ”المثقّف” دوره الطّليعيّ ، سلباً أو إيجاباً ، على مرّ التّاريخ المعروف ، مع أنّ مصطلح ”المثقّف” هو مصطلح أو ”مفهوم” محدّد حديث النّشوء ، حيث يُرجعه التّقليد السّياسيّ و الفكريّ إلى أواخر القرن التّاسع عشر في ( أوربّا ) ، و على التّحديد في ( فرنسا ) ، بمناسبة قضيّة ( دريفوس ) الشّهيرة ( ١٨٩٤ – ١٩٠٦ ) ، حيث اشترك فيها للدّفاع عن ( دريفوس ) أسماء كبيرة في تاريخ السّياسة و الفكر و الأدب ، من مثل ( إميل زولا ) و ( مارسيل بروست ) و ( أناتول فرانس ) و ( ليون بلوم) .. إلخ ؛ الذين وقّعوا على “عريضة” عرفت لأوّل مرّة ، لفظاً ، بِ”بيان المثقّفين” ، تأييداً لإعادة محاكمة الفرنسّي – اليهوديّ ، ( ألفريد دريفوس )( ١٨٥٩- ١٩٣٥ ) ، الضّابط في الجيش الفرنسيّ، بعد أن اتّهم بالخيانة العظمى و التّجسّس لمصلحة ( ألمانيا ) ..

      إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ مشكلة ”الثّقافة” و ”المثقّفين” غير معروفة قبل هذا التّاريخ ، إذ بإمكاننا أن نَعُدَّ ( سقراط ) العظيم أوّل شهيد من شهداء ”الثّقافة” و الفكر و السّياسة ، في التّاريخ الاعتباريّ للثّقافة و الفكر و المعرفة .

     3▪ اتّخذت صفة ”المثقّف” في مرحلة ”الحداثة” العالميّة ، حالة المهنة الاجتماعّية التي تمايزت باستقلالها العمليّ عن باقي النّشاطات الاجتماعّية والاختصاصات العلمّية ، هذا مع أنّ هذه الصّفة ليست وليدة ”الحداثة” إذا أخذنا بالاعتبار واقع التّقسيم الاجتماعيّ التّاريخيّ للعمل منذ فجر التّاريخ ، عندما اختصّت بالثّقافة طبقة الّلاهوت التي استقّلت مبكراً عن مزاولة العمل العضليّ المنتج للقيمة الزّائدة في اقتصادات التّاريخ و التّبادل السّلعيّ المباشر في إطار السّوق ، لتعتاش على الهبات ”المقدّسة” المزعومة .

      و في التّالي من التّاريخ ، توضّحت فروقات خاصّة بين الطّبقة الثّقافيّة و مثيلاتها من أصحاب العمل الذّهنيّ ، عندما استقرّ اختراع جديد لانفصال المثقّفين عن المتعلّمين ، بحيث اتّجهت فئة المتعلّمين إلى التّخصّص ”التّكنوقراطيّ” ، فيما انصرفت فئة المثقّفين إلى التّعضّي الصّريح بالنّشاطات الرّاديكاليّة في إطار الوعي المجتمعيّ الذي أظهر تمايزات متزايدة منذ ”المجتمع الحديث” الذي نميل إلى تحديد بداياته مع الثّورة الصّناعيّة في ( أوربّا – و بريطانيا على الخصوص ) ، منذ القرن الثّامن عشر ، هذه ”الثّورة” التي أسهمت مباشرة في تكريس و إظهار تقسيم العمل ما بين العمل العضليّ و العمل الذّهنيّ ، ما أتاح هامشاً واسعاً للسّاسة و السّياسيين و المثقّفين ..

      و هو ما ساعد بإسهام فعّال في التّعجيل بثورات الحداثة و الفكر الحداثيّ ( في بريطانيا الصّناعيّة ، و صعود ”الطّبقة الثّالثة” – البورجوازيّة ) ، ثم في ( فرنسا ) بخاصّة ( ثورة ١٧٨٩ ) ، ثمّ في انتشار تقاليد الثّقافة و الحداثة على مستوى العالَم .

     4▪ يمكن أن نضيف إلى هذه التّخطيطة المجرّدة السّريعة و المختزلة ، فكرة تباين ”الثّقافة” الرّاديكاليّة بين دول ”المركز” و دول ”الأطراف” في النّظام ”الكولونياليّ” العالميّ ، بحيث تحدّد دور المثقّف في دول و مجتمعات ”الأطراف” بتقليد دور ”الثّقافة” و ”المثقّف” في دول ”المركز الكولونياليّ” ، و بحيث مثّل ”مثقّفنا” (في دول الأطراف في النّظام الاستعماريّ الكولونياليّ) تلك النّسخة المقلَّدة و المشوّهة عن ”الأصل” الغربيّ – الأوربّيّ ، و ذلك مع اعتبار ”الأصالة” التّاريخيّة التي أنتجت ثقافة الحداثة في ”الغرب” ، و التّصدير الممسوخ و التّآمريّ على الشّعوب و الدّول الضّعيفة لتلك الثّقافة في نموذج مطبوع و غريب عن واقع مجتمعاتنا ، التي لم و لا تمتلك تلك البنى الحضارّية و المؤسّساتيّة و الاقتصادّية و الاجتماعّية و السّياسيّة ، التي توفّرت للغرب في إفراز ”الثّقافة” المناسبة و المطابقة لبناها التّحتيّة المتمثّلة في حقول العمل و النّشاط و السّلوك ، و الحاجات التّاريخيّة التي تفرض فيها البنى التّحتيّة المادّيّة و الاجتماعيّة الثّقافة كبنية فوقيّة مناسبة و مكافئة .

     5▪ من المفترض أنّ الوقائع و الظّواهر الاجتماعيّة و السّياسيّة الصّغيرة منها و الكبيرة أن تحدّد موقع المثقّفين في مجتمعاتهم و في العالَم ، و هذا ما يطرح مسألة طليعيّة المثقّف و خروجه على النّسق العقليّ السّائد في المعطى اليومي للفكر ..

      و عند هذه الحدود يتحدّد الموقع الكونيّ للمثقّف بوصفه متفوّقاً على ذاته و على التّقاليد التي تعرقل التّفكير الحرّ غير المقيّد بأيّ انتماء محدود له ، ليستطيع تسويغ نوعه من حيث هو ينتمي إلى طبقة أو فئة أحرزت تفوّقها السّيكولوجيّ في القابليّات الحضاريّة ، التي تسمح للثّقافة أن تكون قائدة لمعالم التّفكير الاجتماعيّ و السّياسيّ ، عندما يدخل المجتمع بدوافعه و غرائزه في وضعيّة التّشابه الظّاهريّ للرّواية التّاريخيّة في سياقها العُنفيّ ، الذي يُغري الكثيرين بالارتداد إلى مستوى ما قبل الطّبيعة التّلقائيّة في الوعي الضّامر ، بعدُ ، و الفعل و السّلوك .

      إنّ من الطّبيعة الأساسيّة للمثقّف أن يتموضع في الأمكنة الحدودّية التي لا يستطيعها الآخرون في المجتمع ، و هي الأمكنة ذاتها التي يحتاج إليها هؤلاء ليشّكلوا ”المُتّحدَ” البشريّ ، خروجاً من الحالات المجتمعّية الانفصالّية التي تشجّع عليها ظروف سياسيّة و تاريخيّة ، تتجاوز مغزاها نحو إغراق الجميع في وهم الانتماءات المتباينة الكفيلة بصناعة الاقتتال المسّلح عند توفر ظروف ذلك ..

      على عكس ما قد أبداه المثقّف السّوريّ ، في غالبيّته ، عندما سمح لنفسه بالانجرار وراء المواقف البدائيّة المجتمعيّة في انتماءات مُعلّبة و جاهزة ، جاهزيّة التّخلّف السّياسيّ التّاريخيّ الذي تُبديه المجتمعات في ظروف أفولها الحضاريّ المبنيّ على ركود زمنيّ متكلّس و متحجّر في مفاصل حركته و دوافع التّقدّم .

     6▪ أثبتت الحرب السّوريّة عقم الطّبقة الثّقافيّة السّوريّة في جملة من الممارسات التي لم تعد خفيّة و لا خافية على أحد ؛ و لكنّه ، هنا ، أيضاً ، جرى انزياح اجتماعيّ سياسيّ تاريخيّ للمثقّف ، كانت نتيجته خلخلة و تنافر ما بين البنى الهيكليّة المتلازمة للظّاهرة الواحدة – الظّاهرة الثّقافيّة – فيما انقلبت المفاهيم السّياسيّة بجملتها تلك التي شكّلت تقاليد الثّقافة منذ عهد الحداثة العالميّة و حتّى اليوم .

     7▪ و لئن شكّلت ”الحساسيّة” السّياسيّة ( الذّائقة السّياسيّة ) في القرن الماضي ، العشرين ، نمطاً من ”التّقاليد الثّوريّة” إلى وقت متأخّر من هذا العصر ، و التي أخذت بالانقراض منذ النّهايات المبكّرة للقرن العشرين ، و المتعلّقة بتهمة ”المثقّف” بتخادمه مع ”السّلطة السّياسيّة” ، و خضوع ”المثقّف” للسّلطة و انتهازيّته في علاقته بالّدولة كطبقة سياسيّة منفصلة عن المجتمع ..

      فإنّ ما شهدته الحرب السّوريّة من انقلابات نوعّية جذريّة لمواقف غالبيّة المثقّفين ، قد جعل علوم السّياسة و الاجتماع تدور دورة عكسّية تامّة ، في اتّجاه معاكس بالضّبط ، لتنظر إلى ما قد خلّفته خلفها من نقص منهجيّ و عجز علميّ ، نظريّ و تطبيقيّ ، و تسرّعٍ تاريخيّ بالأحكام النّاجمة عن ”استقراءات” فاشلة و استنتاجات مزيّفة ، و لتعيد النّظر بالكثير من قوانينها الرّاديكاليّة التي تصوّرتها ، في لحظة تاريخيّة مبادئ ثوريّة لا يفتّ من صحتها أيّة مراجعة لأيّ حكم أو برهان .

      هكذا ارتهن ”المثقّفون” السّوريّون ، المُتَوَّجون ، بأغلبيتهم .. لأحطّ و أدنى و أسقط السّلطات الاجتماعيّة التّاريخيّة السّياسيّة تخلّفاً و عصبيّة و قبَليّة و رجعيّة ، و تحالف مع أكثر أقوى القوى السّلطويّة العالميّة بربريّة في الثّقافة و احتقاراً للشّعوب و اضطهاداً للإنسانّية و ساديّة و تجبّراً ..

      فكان أن قدّم نموذجاً بشريّاً ضالعاً في الجهل و الخيانة و الحقد و الانعزالّية الاجتماعّية ، فيما كان عليه أن يقف إلى جانب اتّجاه حركة التّاريخ في نزوع الشّعب العربيّ السّوريّ إلى التّحرّر من الهيمنة الكولونياليّة الغربيّة ، و السّلطات الاجتماعّية السّياسيّة الرّجعيّة المحلّيّة و العربيّة و الإقليميّة ، و السّطوة الأميركّية على القرار الوطنيّ المستقلّ .

      لقد انقلب ”المثقّف” ، غالبا ، على نفسه و على طبقته و على مجتمعه و على وطنه ، حتّى عاد مهزلة تاريخيّة من مهازل السّياسات العالميّة في عالم يُتيحُ ، و يجب أن يُتيحَ ، موقعاً للمثقّفين يمكّنهم من أن يكونوا قادة اجتماعيين و سياسيين كما هو الأمر حاصل ، و حصل ، مع المثّقف العالميّ الذي كان له السّبق الفلسفيّ في المنافحة عن قضايا الشّعوب العادلة ..

       و تحضر ، هنا ، أسماءٌ ثقافيّة و فلسفيّة و سياسيّة ، في وقت معاً ، من أمثال ( جورج لوكاش ) و ( أنطونيو غرامشي ) و ( ألبير كامو ) و ( جان بول سارتر ) و ( تشي جيفارا ) و ( فيديل كاسترو ) .. و غيرهم من هذا ”النّموذج” كثيرون .

     8▪ في هذا الفراغ الذي خلّفه وراءَهُ ”المثقّف” – و مثالنا في المثقّف السّوريّ – كان لا بدّ ، و بحكم طبيعة القانون الفيزيائيّ – السّياسيّ ، أن يطفو على سطح ”الحدث” السّوريّ الجَلَلِ ، نمط هزيل من ”المثقّف” الوطنيّ غير المؤهّل لقيادة الطّليعة الاجتماعيّة – السّياسيّة نحو الأهداف الوطنيّة الكبرى ، في تحدّياتها المرحليّة و أدوارها التّاريخيّة الوجوديّة ، فإذا به يشكّل عبئاً على هذه الّلحظة التّاريخيّة الحاسمة ، في ممارسات انتهازيّة و مختلطة التّضمين من الحماسة و العجز و الانخراط في قضّية الدّولة و المجتمع و الحرب ، وفق اجتهادات إعلامّية و أيديولوجيّة في خطاب ذي صفات بعضها منقرض و بعضها الآخر اجتهاديّ فرديّ و فاشل ، لم يؤدِّ دوره الرّياديّ في التّوسّع في طبيعة الحرب و تاريخانيّتها و تأويلها تأويلاً فكريّاً جريئاً ، كانت الّلحظة الانعطافّية في أشدّ الحاجة إليه كمقدّمة لتعرية الكابح التّاريخيّ و الجمود الحضاريّ و التّردّد السّياسيّ و الخجل الرّسميّ و الخوف من الاقتراب من روح التّاريخ السّوريّ المتعفّن في محرّماته القبليّة الثّقيلة ..

      و هو ما أثبتت الأحداث السّياسيّة التّالية صواب هذه الفكرة ، عندما استعادت الكثير من السّلطات الاجتماعّية و العرفيّة و التّقاليديّة تنظيم مواقعها من جديد ، على خلفيّة معاصرتها الّلحظيّة العميقة لمفرزات ”الحدث” ، فيما تخلّفت ”الثّقافة” و ”المثقّفون” عن مواكبة ”الحدث” في استعادتهم لمراوحة كلاسّية ( كلاسيكّية ) في محدوديّة الشّعار الأيديولوجيّ الذي أبدى معه الزّمن مكوثاً مؤسفاً في ثقافة السّتينات و السّبعينات من القرن العشرين ، عندما كان يُبرّرها ، آنذاك ، نقص الموارد الثّقافيّة و السّياسيّة و العالميّة و المعلوماتيّة ، و دوران الفكر في انغلاق ثقافة عصر ”الحرب الباردة” .

     9▪ ثمّة ما يُثير الرّيبة الفكريّة مع تدنّي مستوى ثقافة الخطاب السّياسيّ غير القادر على الارتفاع و الارتقاء إلى مستوى الحدث التّاريخيّ السّوريّ ، كما أثبتت السّنوات الطّويلة الماضية التي أرّخت للحرب على وفي ومع سّوريّة ، على مستواها المتواضع ، حتّى الآن .

      لم يشهد الفكر السّياسيّ السّوريّ أيّ تحوّل مفهوميّ في المصطلح و المفهوم الّلذين يرتقيان إلى مستوى هذا الحدث التّاريخيّ المؤسّس أو الذي كان يُفترض به أن يكون ، كذلك ، مؤسّساً .

      لقد شكّلت الكثير من مفردات و تفاصيل ”الحدث” ، إن لم تكن قد شكّلت جميعها ، سابقة تاريخيّة على مستوى الثّقافة المحلّيّة و الإقليميّة و العالميّة ، و تالياً على مستوى الثّقافة السّياسيّة و السّياسة نفسها ، بينما تعثّر تناول الحدث نفسه بطاقم من المفاهيم و المصطلحات التي أجهضت ، في قسم كبير منها ، دلالات الحدث بالذّات ، و جعلت منه – أو تكاد – حدثاً طبيعيّاً و عابراً و مألوفاً ، و ربّما معتاداً و مجرّباً أيضاً .

      هذه النّقطة التقطتها القوى الاجتماعّية بسلطاتها العنيدة التّقليديّة ، التي بدت عليها معاصرة خلفيّة و تحتيّة عميقة و مدركة لخطورة الممكنات في التّحوّلات ، فكانت أن عملت على حصار الثّقافة و التّربية و التّعليم و الإعلام و التّديّن ، و ضبط جميع ذلك في مستوى هزليّ إذا ما قيس بالضّرورة و الممكن من التّجاوز ، و جعلت من الحدث فرصة تاريخيّة ثقافيّة رجعيّة ( أو جامدة ) لها ، و استفادت منها حتّى في مستويات سياسيّة متقدّمة في المؤسّسة العامّة و الخطاب الرّسميّ السّياسيّ العام ، حتّى جعلت من الحرب ، بكلّ ويلاتها ، مجرّد اختلافات ”فقهيّة”(!) دينيّة و اجتماعيّة و سياسيّة ، في حصار ناجح لآفاق تطور خطاب الحرب ..

      إذ اجتمعت على ذلك جملة من السّلطات الاجتماعيّة التّقليديّة ، متآزرة مع المؤسّسة السّياسيّة الرّسميّة في ”حلف مقدّس” لم ترتقِ إليه ، في المستوى ، الثّقافة الوطنيّة المدنيّة العلمانيّة و الدّيموقراطيّة الممكنة ، في الوقت الذي أنجزت فيه تلك السّلطات و القوى الاجتماعيّة و السّياسيّة الرّجعيّة ، خطابها بخبث و دهاء تاريخيين في إطار شعارات”الدّيموقراطيّة” بالذّات !

     10▪ تطرح مشكلتنا ، على ما تقدّمت ، مسألة خاصّة جدّاً قلّما يلتفت إليها الفكر السّياسيّ المعاصر المحلّيّ أو العالميّ ، و ذلك في صيغة سؤال هو : هل ، بالفعل ، قد تلاشت من العالم ظروف ”الثّقافة” و شروط إنتاجها العالميّة ( الإنسانيّة ) ، على النّحو الذي ما تزال معه طبقات اجتماعيّة متعدّدة تجد في ”الثّقافة” السّياسيّة المبنيّة على أصول فكريّة فلسفيّة و سياسيّة و أخلاقيّة ، مصلحة تاريخيّة لها فيها ؟

      و بصياغة أخرى : هل انتفى الحامل التّاريخيّ التّقدّميّ للثّقافة المتجاوِزة؟

      أو هل دخلت المجتمعات العالميّة المعولمة في تدجين بشريّ شامل ، أزاح من مفرداتها المحرّكة و المتحرّكة ، مسوّغات المواكبة الفكريّة للأحداث السّياسيّة العالميّة الجسام ؟

      و بقدر ما تبدو هذه الأسئلة ضرورّية ، في ما فوق المشروعيّة ، فإنّ الأجوبة عليها لا تبدو بدرجة الوضوح الذي صيغت فيه تلك الأسئلة ، و هو الأمر الذي يجعلنا نقرأ التّناقضات العالميّة ، اليوم ، في المجتمعات و بين الدّول ، قراءة كثيرة المغايرة و الخصوصيّة و الاختلاف .

     11▪ ربّما يكون علينا ، كواجب تاريخيّ ، أن نؤمن بالتّغاير الظّرفيّ لحدود المفاهيم و المصطلحات و طبيعة الضّروريّ و تفريقه عن غيره من عدم الضّروريّ ، في العصر العالميّ الرّاهن ، المعولم و العولميّ ( و هذا ما نذهب إليه ، غالباً ، في تعبيرنا بالعالميّ ! ) ، بحيث يترتّب على هذا الأمر أن ننظر إلى ”الثّقافة” نفسها كمفرز من مفرزات ”العالميّة” التي تزول معها و فيها المضامين المُعَزَّزَةُ تاريخيّاً بثوابت سياسيّة و أخلاقّية ، و ذلك نتيجة الإنزياح الاجتماعيّ العالميّ الذي رافق مجتمعات ما بعد الحداثة ، بقيمها المختلفة و نظرتها المُعمَّمَة وفق النّموذج الإمبرياليّ المعاصر العابر لخصوصيّات و مناقبيّات الشّعوب و قيمها التّقليديّة التي كانت ، في ما مضى ، راسخة ، و هي لم تعد كذلك اليوم .

      إنّ تحليل الظّاهرة الثّقافيّة العالميّة ، اليوم ، يُحيلنا ، مباشرة ، إلى تحليل الأثر الاجتماعيّ و السّياسيّ العالميّ في المفهوم و العمل ، قبل أن نتّجه إلى الخصوصيّات التّاريخيّة للمجتمعات العالميّة ، و بخاصّة من حيث كتلة المغزى السّياسيّ الذي تضمّنته الثّقافة في محصّلاتها العالميّة الأخيرة .

      و مع ذلك يبقى ثمّة سؤال جوهريّ لم تتمّ الإجابة عليه في هذا الحديث . لماذا ، كما هو ملاحظ ، يجري الاصطفاف أو الاصطفافات الإمبريالّية المُحدَّثَة إلى جانب أكثر المظاهر رجعيّة و ظلامّية في قوى و سلطات المجتمعات العالميّة – و منها مجتمعاتنا – لتعزيز أحلاف مقدّسة تقف في وجه الانتقالات الّتقدّميّة للشّعوب ؟

     12▪ و في الجواب ، فالعالم يقف اليوم على عتبة تغيير و تغيّر عميقين من جهة خلخلة ثقافة ما بعد الحداثة ، و تجاوزها إلى عصر ثقافيّ بَعديّ آخر ، من أهمّ معالمه هو هذا الاستشراس السّياسيّ في وجه الثّقافات العالميّة المختلفة و المعروفة في صفاتها المجتمعيّة و الدُّوليّة و الوطنيّة و القوميّة و النّسقيّة القارّة ، و تعاضد ما تبقّى من قوى و سلطات و بنى و هيكليّات و تحالفات و تجمّعات و روابط دوليّة ، على أسس استنفدَت طاقاتها و مسوّغاتها ، و أزفت ساعة تحوّلاتها الشّاملة و العميقة على مستوى القارّات العالميّة الخمس ..

      و لذلك فإنّ من طبيعة الأشياء أنّنا نمرّ ، الآن ، و في هذه الّلحظة التّاريخيّة الصّعبة و غير المسبوقة، في ما يمكن أن نسمّيه ”زخم” النّزع الأخير لروح العالم المعروف ، بما هو ”الزّخم” كمّيّة و قوّة الحركة و التّحرّك الفيزيائيّ ، و قد تمثّلته السّياسة العالميّة كمبدأ فيزيائيّ – سياسيّ طاغٍ و حتميّ ، لتحصيل آخر ما يُمكن تحصيله من ثمرات روح العالم الذي دخل مرحلة الأفول .

     و الأمثلة كثيرة على ما نقوله ، هنا ، و هي تتظاهر أمامنا ، يوميّاً ، في ”السّياسات” الهزيلة التي تنتهجها القوى الأكثر قوّة في العالم المعاصر ، في تحالفات رؤوس الأموال الضّخمة و الطّائلة في الدّول الرّجعيّة مع أعتى قوى العسكرة العالميّة الغربيّة – الأميركيّة .

     13▪ و من مبدأ التّلازم العالميّ التّاريخيّ للأشياء ، فإّنه بديهيّ ، إذاً ، ما نعيشه اليوم من تقزّم ثقافيّ مجتمعيّ محلّيّ ، و إقليميّ و عالميّ ، و ذلك من مبدأ القانون السّياسيّ التّاريخيّ الذي نسمّيه بتلازم الواقع و الوعي تلازماً جدليّاً ، و هو القانون نفسه ، و لو بصيغة أخرى و مختلفة بعض الشّيء ، ذاك الذي تسمّيه ”المادّيّة التّاريخيّة” بانعكاس الوعي عن العالم .

      و على أنّ الثّقافة كمبدأ فكريّ لا يمكن أن تصاب بالهلاك القاتل ، فإنّ ما يبدو على ”الثّقافة” السّوريّة ، اليومَ ، إنّما هو أحد آثار قانون عالميّ واحد ، يبدأ بالتّكوّن و الاندفاع التّالي بناء على تهالك للدّوافع القديمة التّقليديّة التي شكّلت في مرحلة تاريخيّة مديدة ، روح التّشكيلة الاجتماعّية – الاقتصادّية – السّياسيّة ، التّاريخيّة ، التي امتدّت على طول أكثر من مائتيّ عامٍ ، منذ فجر الحداثة العالميّة ، فيما كانت قد انعطفت انعطافتها السّياسيّة الثّانية في ”ما بعد الحداثة” ، مع نهاية الحرب الباردة ..

      بينما هي تتأهّل ، اليوم ، لتكريس و تعزيز و تمتين مرحلتها الثّالثة في ”ما بعد بعد الحداثة” ، و لو أنّنا ، وفقاً للمادّيّة التّاريخيّة ، لا نستطيع ، بعدُ ، أن نقول إنّنا تجاوزنا التّشكيلة الاجتماعّية – الاقتصادّية – السّياسيّة الأخيرة ، و التي بدأت مع المرحلة الرّأسماليّة الحديثة تلك التي دشّنها عصر الثّورة الصّناعيّة في ( بريطانيا ) ، و عصر الثّورة البورجوازيّة في ( فرنسا ) ، على رغم التّعديلات العميقة و الشّديدة التي جرت عليها مع عصر الإمبريالّية العالميّة التي قادتها ”الولايات المتّحدة الأميركّية” بعد الحرب العالميّة الثّانية .

     14▪ في وسط هذه التّناقضات الكثيرة التي تمثُلُ أمام ”الثّقافة” و ”المثقّف” السّوريّ ، يبدو توصيف الواقع المُعقّد بسيطاً ، إذاً ، إذا ما قورن بالنّتائج المنتفخة و المتورّمة كسرطانات تغزو جسد الدّولة و المجتمع ، حيثُ يُعاني الجميع من رذائل ”الثّقافة” السّائدة و القائمة على كلّ تلك الأسباب و المضامين في مفاعيل إشكالّية ليس لها حلول مباشرة ، و لكنّها ، و بكلّ تأكيد ، تحتاج إلى مَسَاعٍ شديدة التّكثيف منطلقة من دوافع الحاجة إلى التّماثل العالميّ ، وفق تحديدنا السّابق لعالميّة انتهاك الثّقافات و شموليّة ”القواعد” التي تجعل من ”الظّاهرة” الثّقافيّة حالة من حالات العطَب المجتمعيّ و الشّعبيّ ، الذي يسطّر قواعد هذا الدّافع العامّ مضموماً إلى الدّوافع الخاصّة المتمثّلة بخلاعة عدم الاتّفاق على معياريّة ثقافيّة سياسيّة وطنيّة ، تضيف إلى موضوعيّات التّراجع الحضاريّ و التّنمويّ بُعداً عمليّاً ، يسمح باستثماره تحت ضغط الذّرائع متباينة الجِدِّيَّة و واسعة الاتّكاء عليها ، كونها لها أنصارها الذين يستفيدون من تفاقماتها باستمرار .

      سنطلق على هذا المفعول ( المضمون ) الذي ، و حتّى الآن ، قد أظهر قابليّات اجتماعيّة و سياسيّة ، يجري استثمارها من قبل الكثيرين من أولئك ”المثقّفين” مع من يخدمونهم و يتخادمون معهم ، إسم ”النّظام” الثّقافيّ الذي يتجدّد و يتنامى باطّراد ، و الذي يقوم بعمليّات متسلسلة في أثرها التّخريبيّ التّفتيتيّ ، لِيَصِلَ إلى مستوى عميق يشتغل في منطقة الدّوافع تلك التي ، إذا ما جرى وعيها في المصالح الموزوعة ، و هو يجري بالفعل كذلك ، تشكّل منطلقاً عمليّاً و تبريريّاً ذا وجاهة ”منطقيّة” ، تبدو كأساس ناجز للعمديّة و التّعمّديّة الكافيتين من أجل الحفاظ على هذا ”النّظام” بممثّليه من ”المثقفين” ، الذين شكّلوا و يشكلون عدواناً على المجتمع ، بوعي و بدون وعي ، سِيّانَ في هذا الصّعيد .

     15▪ تبقى مشكلة جوهريّة في هذه ”الظّاهرة” – ”النّظام” ، و هي أنّه نظامٌ ، ليس فقط متهالك و تهالكيّ ، بذاته ، و إنّما يمتدّ أثر هذا التّهالك إلى المنظومة الفكريّة السّياسيّة للدّولة ، بما يُمثّله ”المثقّف” ، بحدّ ذاته ، من مقياس اجتماعيّ و سياسيّ ، بالنّسبة إلى القوى الأخرى المؤهَّلة لتستقبل وافد العمل و القيمة الاجتماعّية و الفكريّة ، التي تنشأ مع النّشاط الطّبيعيّ و الضّروريّ ، فإذا بها تشكّل ، دوماً ، شاهداً و مثالاً على التّنشئة الفكريّة للمجتمع و الجماعات ..

     و كذلك بما هي قيمة أو ”جهاز” سياسيّ فوقيّ ، تمتدّ فروعه إلى مؤسّسة الدّولةو محلّات السّيادة و القرار ، لتجعل كلّ ما من شأنه أن يشكّل خصوبة التّقدّم و التّطوّر، في عداد الطّاقات و القوى الاجتماعّية التي تُختزل بالقياس و المحاكاة و التّقليد، إلى نظام تهالك و هلاك لدوافع الفكر و محفّزات الهويّة الوطنيّة بما فيها هويّة المجتمعو الدّولة ، حتّى تبعث فيها روح العجز و الانتهازّية و الخيانة التّاريخيّة لمبادئمواجهة الواقع و مشكلاته المعقّدة و

المتنامية باستمرار ، و كذلك في مواجهة ”الموضوعيّة”التي تنشر فروضها على الحاضر و المستقبل السّياسيّ للنّظام العامّ ، الذي اختُرِقَفي إطار هذه ”الظّاهرة” و آثارها التي لا تُحصَى و لا تُعدّ

قد يعجبك ايضا