نتنياهو والخيارات الصعبة… والبعد الوجداني الفلسطيني / فايز رشيد




فايز رشيد ( الخميس ) 22/11/2018 م …

حريّ التأكيد على أن المجابهة الباسلة لتنظيمات المقاومة الفلسطينية للعدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، استطاعت أن تخلخل أسس الإئتلاف الحكومي الإسرائيلي القائم. هذا واحد من التداعيات الكثيرة لهذا الصمود على مختلف الأصعدة الفلسطينية والإسرائيلية، العربية والإقليمية أيضا إسرائيليا، سؤالان مهمان أثارتهما المجابهة الباسلة: هل تلجأ إسرائيل لعدوان واسع النطاق على القطاع، أم تكتفي بضربات عسكرية محدودة؟
السؤال الثاني، هل ستجري انتخابات مبكرة في إسرائيل؟ أم يلجأ نتنياهو لفعل المستحيل للإبقاء على حكومته؟ الخياران بالفعل بالنسبة لجوابي كل سؤال أحلاهما مرّ، فكسر قدرة الردع الإسرائيلية، وهو أحد المبادئ الأمنية الإسرائيلية منذ
إنشاء دولة الكيان، سيجعل إسرائيل أمام أخطار مستقبلية عديدة، إضافة إلى أنه سيمرّغ الهيبة الصهيونية في التراب. أما الهجوم واسع النطاق على القطاع واحتلاله، فسيكلف إسرائيل غاليا، وليس مضمونا أن تأتي نتائج العدوان مطابقة لتوقعات ذوي الرؤوس الحامية في تل أبيب.
بالنسبة لجواب السؤال الثاني، فلم تستطع مناورة ليبرمان واستقالته، ولا ركوبه موجة غالبية الشارع الإسرائيلي (60% منه تقريبا) بالدعوة إلى احتلال غزة، في عنجهية صهيونية واضحة، رافقت إنشاء الدولة الصهيونية على مدى سبعة عقود، لم تستطع إجبار نتنياهو على حلّ حكومته، والذهاب إلى انتخابات مبكرة، فقد أنقذ تحالف أحزاب المستوطنين «البيت اليهودي» حكومته من الانهيار، بتراجعه عن شرطه البقاء في الحكومة، بتولي زعيمه نفتالي بينيت حقيبة وزارة الحرب خلفا لليبرمان. قرار كتلة «البيت اليهودي» كان مفاجئا للحلبة السياسية الإسرائيلية، بعد أن أبدت الكتلة إصرارا على تولي حقيبة الحرب، بهدف تغيير استراتيجيات جيش الاحتلال تجاه قطاع غزة، حسبما أعلنوه. وهناك الكثير من التفسيرات المفترضة لهذا القرار، من بين هذه التفسيرات النية بتمرير قوانين يسعى لها اليمين الاستيطاني، تتعلق بأنظمة الحكم، منها السماح للوزراء بتعيين المستشارين القضائيين للوزارات، وسن قانون آخر يسمح بسن قوانين نقضتها وتنقضها المحكمة العليا، قوانين كهذه في حالة سنّها ستجبر الحكومة على أن ترتكز على أكثر من 61 نائبا. نظريا، فإن نتنياهو قادر على قيادة حكومته بهذه الأغلبية الضئيلة.
لقد سعى نتنياهو لانتخابات مبكرة منذ أشهر طويلة، في محاولة لتجاوز التحقيقات معه بقضايا الفساد، واستباقا لاحتمال تعميق تداعياتها، واتخاذ قرارات بتقديم لوائح اتهام ضده، إلا أنه لمس بشكل واضح أن الجمهور لا يلتفت إلى القضايا التي تلاحقه، بمعنى أنه لا يأخذها على محمل الجد، خلافا لحالات أخرى مع رؤساء حكومات سابقين، لعدة عوامل أهمها، أن القضايا المنسوبة إليه، حسبما ينشر، ليس فيها اتهام بتلقي مبالغ ضخمة، وإنما الحديث عن «هدايا» دسمة مقابل امتيازات ضريبية وتسهيل أعمال. وكما يبدو أن هذا مستوى يشكل فسادا «مقبولا» في الشارع الإسرائيلي. وأمام هذا، سعى نتنياهو إلى استثمار المكاسب السياسية التي حققها له البيت الأبيض، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية، وفي القضايا الإقليمية، وأيضا ما يُظهر وكأن مكانة إسرائيل على الساحة الدولية والإقليمية، تتعزز. كل هذا يأتي في ظل ظروف اقتصادية جيدة بشكل خاص للشارع اليهودي، الذي لا يعاني من نسبة بطالة عالية، فيما نسب الفقر لديه مماثلة لنسبها في دول أوروبية كثيرة.
مما لا شك فيه، أن إسرائيل شهدت أزمة سياسية بعد انسحاب ليبرمان من الحكومة، احتجاجا على وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة بعد ثلاثة أيام من الاشتباكات، لكن رئيس الوزراء دعا شركاءه في الائتلاف الحاكم إلى عدم إسقاط الحكومة، كما رفض الانتقادات الموجهة إليه في التعامل مع الفصائل الفلسطينية في غزة، موضحاً أنه «في مثل هذه الظروف لا يوجد مكان للسياسة، ولا مكان للاعتبارات الشخصية». كما أضاف أن «معظم مواطني إسرائيل يعلمون أنني عندما اتخذ قرارات بشأن الأوضاع الأمنية، فإنني أفعل ذلك بطريقة واقعية من أجل أمن وسلامة مواطنينا وجنودنا». أيضا، فإن نتنياهو يواجه الآن امتحان تعزيز الثقة بحكومته بعد أن اهتزت إسرائيل، بعد فشل حملتها الأخيرة على غزة، ما قد يدفعه لشن حرب جديدة على القطاع لتحقيق هذا الهدف. لكن غزة في الظروف الراهنة ليست كما كانت عليه عام 2014، حيث أن هناك واقعا سياسيا وعسكريا جديدا، يفرض معادلات جديدة، قد يقلب حسابات نتنياهو من جديد رأساً على عقب. في خضم المعركة التي يواجهها، تمكن نتنياهو من العثور على حليف موثوق، وهو رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي غادي ايزنكوت، ووفقا لـ»هآرتس»: «على ما يبدو أن الاثنين منسجمان تمامًا».
لقد اقترح بعض الوزراء الإسرائيليين، وفقًا لـ»هآرتس» شنّ قتال بدون إرسال قوات برية إلى غزة، وهذا ما عارضه ايزنكوت، موضحًا أن هذا الأمر سيثير حفيظة الفلسطينيين ويدفعهم إلى إحداث أضرار في تل أبيب، ويستمر التصعيد ما سيضطر حكومة الاحتلال في نهاية الأمر إلى إرسال قوات إلى غزة.
جملة القول، إن نتنياهو سيفكر مرارا قبل اقتراف جريمة العدوان الواسع على قطاع غزة، رغم كل تهديداته العنجهية مؤخرا، فهو يستطيع أن يبدأ الحرب، لكنه لن يستطيع وضع حدّ لنهايتها، وامتداد تداعياتها، التي ربما ستكون أكبر من كلّ تصوارته، خاصة أن المستويين الأمني والعسكري في إسرائيل يقفان ضد هذه الحماقة.
على صعيد «الجانب الوجداني في الثورة الفلسطينية»، فقد كتبنا سابقا عن إهمال الحركة الصهيونية للعديد من الجوانب عند اختيارها فلسطين لبناء وطنها القومي فيها مثل: تاريخ وحقيقة النضال الفلسطيني في كسر كل الغزوات التي حاولت استعمار واحتلال الأرض الفلسطينية، وخروجها طريدة منكسرة. الفضل يعود في ذلك لنضال الشعب الفلسطيني العربي الكنعاني الأصيل أولا، وارتباطه اللامحدود بأرضه ثانيا. وقد ساهمت في هذا الارتباط، عوامل كثيرة، منها ما هو مرتبط بعوامل موضوعية وأخرى ذاتية، غير أن أحدا لم يكتب عن الجانب الروحي الوجداني في الثورات الفلسطينية على مدى تاريخ النضال الوطني، والذي يكمن في خلفية : الارتباط بالأرض، والتمسك بها، والاستعداد العالي للتضحية في سبيلها، كما كل المظاهرالإيجابية الأخرى التي نراها واضحة جلية في شعبنا. منذ أسبوعين، لفت انتباهي تصريح لنتنياهو يقول فيه، «بأنه لا تنفع مع العرب، غير لغة العصا والقوة، وأن الحديث عن احتلال إسرائيلي لما يسمى بأرض فلسطينية ليس أكثر من ترّهات». ويضيف رئيس الوزراء الصهيوني «مغرّدا»، على مدى التاريخ، احتلت دول كبيرة أراضي دولٍ أخرى، وأبدلت سكانها، ولم يتكلم أحد فلماذا ينعقون بأن إسرائيل تحتل أرضا أخرى، وهي في الحقيقة استعادت أرضها؟». نتنياهو كمغتصب مثل كل قادة حركته الصهيونية الرجعية الفاشية، لا يأخذ بعين الاعتبار الجانب الروحي في مقاومة الفلسطينيين لفعل الاحتلال الكولونيالي، الاغتصابي، الاستيطاني الاحتلالي للوطن الفلسطيني.
الوجدان هو في مجموعه، أحاسيس وعواطف وانفعالات واتجاهات وميول معنوية، تفرض نفسها على الإنسان، في تفاعل سلوكي مع مظاهر مرئية حياتية، يحدده الفعل، الأمر الذي يولّد ردود فعل لدى الآخر، متماهية أو مناقضة في طبيعتها بالطبع، للفعل السلوكي للمعتدي، ما يؤدي إلى خطوات فعل قِيَميّة بعد إدراكها حسيّا وعقليا ومعرفيا، فتمر والحالة هذه، في مراحل تمحيصية حتى تتحول إلى قيمة عليا، وينبني عليها بعد ذلك، الرأي الحاسم المسلكي المتولد عن قناعة، بعد التقدير بالطبع. من هنا يمتلك الإنسان قدرة فائقة على تحمل العذابات والصعاب، كقيم سامية في سبيل تحقيق القيمة الأكبر، التي يسعى الإنسان من أجلها. لكل ذلك يتحمل الفلسطيني كلّ عذابات الشتات واللجوء في سبيل استرداد وطنه كقيمة كبرى (هدف) )في حياته. من هنا تسأل طفلا فلسطينيا في إحدى قرى روسيا، اليابان، أمريكا أو كندا وغيرها: من أين أنت؟ فيجيبك أنا من الطيرة، أو كفر قاسم، أو عيلبون من يافا، من جلجولية أو أم الفحم. بالتالي، فإن أساس هذه الظاهرة هو الجانب الوجداني الروحي لدى شعبنا الفلسطيني في ارتباطه بوطنه، بقريته التي لا يعرفها. هذا أيضا يكمن في خلفية حمل الفلسطيني لمفتاح بيته، الذي هجّر منه قسرا وعنوة، كما سرّ احتفاظ أحفاده به، وإجلاله لحد التقديس… فهو من رائحة الأرض التي نسعى لتحريرها. ليس هذا بنوستالجيا لذكريات عابرة، بل هو في الذهنية الفلسطينية حتى تحرير الأرض ونيل الحقوق كاملة غير منقوصة. هذا البعد الوجداني لا يمكن لمحتلين أن يشعروا به، لأن الأخيرين سيظلون يفتقدون الانتماء للأرض التي اغتصبها مشروعهم، حتى لو قوّلوا الله ما لم يقله من أضاليل وأساطير وخرافات يسوّغون بها كولونياليتهم الاحتلالية لها.

قد يعجبك ايضا