ديون العرب، أو الغرق في مُحيط التّبَعِية / الطاهر المعزّ

نتيجة بحث الصور عن ديون




الطاهر المعزّ ( تونس ) السبت 17/11/2018 م …

نظرة سريعة على أربعة نماذج من التّدَاين (تونس ومصر ولبنان والأردن)

تقديم:

يحتل الوطن العربي موقِعًا استراتيجيًّا، بين غرب آسيا والمحيط الأطلسي، بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى احتواء الأرض العربية على نحو 42% من الإحتياطي العالمي للنفط وعلى 29% من الإحتياطي العالمي للغاز الطبيعي، وفق بيانات 2016، وقد يكون هذا الموقع الإستراتيجي وهذه الثّروات الطّبيعية، أحد أسباب تكالب القوى الإمبريالية على المنطقة، التي تحكمها طبقة من العُملاء الذين يمثلون مصالح الدّول والشركات الأجنبية.

أما الشعوب العربية فإنها لم تستفد من هذه الثّروات، بل يهاجر عدد هام من الشباب العرب من أصحاب المؤهلات الجامعية، بسبب ارتفاع نسبة البطالة في أوساط الشباب إلى أعلى المستويات العالمية، وبلوغ معدّلها 26,1% في مجمل البلاد العربية ( قرابة 30% في تونس ومصر والأردن)، ولم يستفد المواطنون العرب أيضًا من هذا الموقع الإستراتيجي والتجاري الهام، بل يُعانون من معدّل منخفض للمشاركة في “سوق العمل”، بنحو 48,6%، وبلغ معدّل البطالة في المنطقة (كمجموعة) نسبة 10%، بحسب إحصائيات 2017 أو ضِعْفَ المعدّل العالمي الذي يُقَدّرُ بنحو 5,5% من قوة العمل، وترتفع نسبة البطالة لدى فئة الشباب إلى 26,1% ولدى النّساء إلى 18,9%…

مارس سُكان منطقة ما بين النّهرَيْن، ما بين سوريا والعراق، أو ما يُسَمّى “الهلال الخصيب”،  ومصر،  النشاط الزراعي المُخَطّط (فصل للحراثة والبَذْر وآخر للحصاد)، وفق الوثائق التي وَصَلَتْنا، ما بين سنتَيْ 9000 و 6000 آلاف سنة قبل الميلاد، حيث بدأت زراعة الحُبُوب، ولكن، ورغم المساحة الشاسعة للأراضي الزراعية، ورغم الأهمية التّاريخية لقطاع الفلاحة، تستورد الدول العربية أكثر من نصف حاجتها من القمح ومن الغذاء بشكل عام، وتشكل المنطقة العربية أكبر مستورد صافٍ للسلع الغذائية في العالم، ويتميز القطاع الفلاحي العربي بِضُعْفِ الإنتاجية…

يُشَكّل وضع القطاع الفلاحي العربي رَمْزًا للوضع المتأزم على جميع الجبهات، ورمزًا للتبعية نحو الخارج، وكانت هذه التّبعية الإقتصادية سببًا في الإستعمار الفرنسي المباشر لتونس (1881) والإستعمار البريطاني لمصر (1882) خلال العقديْن الأخيريْن من القرن التاسع عشر، ولم يُفْضِ الإستقلال الشّكْلِي سوى إلى الإستعمار الإقتصادي، والتّبعية للدول الأجنبية، وللمؤسسات المالية الدّولية، التي تُهَيْمِنُ عليها الدول الإمبريالية (الولايات المتحدة بشكل خاص)، واليوم، يُعِيد التاريخ نفسه، فاستدانت حكومات المغرب وتونس ومصر واليمن والأردن والعراق من صندوق النقد الدولي بين سنتَيْ 2012 و 2016، لتزيد نسبة الدّيْن العام لإحدى عشر دولة عربية، عن 50% من إجمالي الناتج المحلي لديها (بيانات سنة 2017)، وبلغت نسبة دُيون الأردن 96,6% من إجمالي الناتج المحلي، وديون مصر 101% وديون لبنان 149%، ووصَلَتْ نسبة خدمة الدين إلى 40% أحيانًا من نفقات الميزانية، وتكمن الخُطورة في مراقبة الدّائِنِين (صندوق النقد الدولي، بشكل أساسي) لسياسة وبرامج وميزانيات الحكومات، التي فقدت بذل الهامش الضيّق من الإستقلالية التي كانت تتمتع بها، إذ يُجْري خُبراء صندوق النّقد الدّولي عدَدًا (ثلاثة أو أربعة) من التّقْيِيمات السنوية (تدْخُل تكلفتها ضمن “خدمة الدّيْن) لتحديد مدى التزام التّلاميذ (الحكومات) بشروط الصندوق، مثل خصخصة القطاع العام وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية، وخفض قيمة العُمْلَة، وخفض عدد الوظائف الحكومية مع خفض الرواتب وجرايات التقاعد (في إطار سياسة “التّقَشُّف”)، ويُسَمِّي صندوق النقد الدّولي هذه الإجراءات “إصلاحات اقتصادية”…

تتعرض هذه الورقة إلى عينات من الوضع الإقتصادي العربي، عبر أربعة نماذج، هي تونس ومصر ولبنان والأردن.

الدُّيُونتغيير شكل الإستعمار في الوطن العربي:

في تونس:

ارتفعت نسبة الدَّيْن من 40% من إجمالي الناتج المحلي سنة 2010 إلى 48% سنة 2016 ، وتعمّقت الفَجْوة الطّبقية بين الأثرياء والفُقراء (ومن ضمن الفقراء من يعملون في الزراعة أو الصناعة أو الخدمات، وكذلك في الوظائف الحكومية) كما تعمقت الفجوة بين مختلف مناطق البلاد، وهي الفوارق التي كانت سببًا في انطلاق احتجاجات أواخر سنة 2010 وبداية سنة 2011، ولكن لم يكن للفُقَراء والعُمّال تمثيل سياسي، وبقيت السلطة في أيْدي فئات من النظام السابق، بمشاركة الإخوان المسلمين، الذين يُمثِّلُون فئة التّجار والبرجوازية الطفيلية التي كسبت ثرواتها من قطاع الخدمات ومن الوساطة والسّمسرة، وتوريد السلع الأجنبية من باكستان وأفغانستان والخليج وتركيا ومن أوروبا، وطالب المتظاهرون، بعد 2011، برحيل المسؤولين في النظام القديم، ولكن لم تكن أحزاب المُعارضة قادرة على فرْض مطالب الفُقراء (وربما لم تكن قادرة على تَبَنِّي هذه المطالب)، فاكتسح الإخوان المسلمون قطاع الوظيفة العمومية (أنشأُوا مع حلفائهم 150 ألف وظيفة بين 2011 و 2014، من بينها حوالي 75 ألف وظيفة للأخوان – بدون مناظرة ولا مؤهلات ولا خِبْرَة- ولأقاربهم وأُسَرِهم، وفق المعهد الوطني للإحصاء)، وتميزت إدارة شؤون الدولة ب”تمكين” الإخوان المسلمين الذين اعتبروا الدولة “غَنِيمَة” يحُقُّ اقتسام ثرواتها بين “الإخوة”، وأصبحت الدّيون وسيلة لثراء الإخوان المسلمين، على حساب الوطن، فارتفع عجز الميزانية من نسبة 1% سنة 2010 (قد تكون البيانات غير ذات مصداقية) إلى 3,3% بنهاية سنة 2011 وبلغ 5,5% سنة 2012، وتصرّفَ زعماء حركة “النهضة” كما يتصرف زعماء حزب الدّستور، وأغرقوا البلاد بالديون من صندوق النقد الدولي، ومن قَطَر ومن الإتحاد الأوروبي، بداية من 2013، فارتفعت قيمة الدين الخارجي بنسبة 16,84% سنوياً، وفاقت قيمته 68 مليون دينارًا سنة 2017، ولم تستخدم الدولة هذه القُرُوض للإستثمار في مشاريع مُنْتِجَة، بل لتمويل العجز، ولتسديد تعويضات ورواتب للإخوان المسلمين، ولإنجاز مشاريع البنى التحتية التي يحتاجها رجال الأعمال، وهي ليست أولوية الفُقراء، وفق “المرصد التونسي للاقتصاد”

في مصر:

ينطبق على مصر، ما ذكرناه عن الوضع في تونس، مع فارق هام يتمثل في مكانة مصر، من حيث عدد السّكان والثّقل الإستراتيجي في الوطن العربي وفي إفريقيا، رغم اهتزاز دور مصر، منذ اتفاقيات “كمب ديفيد”، ومنذ هيمنة السعودية على الجامعة العربية، وبدأ الإخوان المسلمون (بين نهاية 2011 و منتصف 2013)، ثم حكومة الجيش ورجال الأعمال (بداية من تموز/يوليو 2013)، إغراق البلاد بالديون وتطبيق شروط صندوق النقد الدولي، مع حملة قمع غير مسبوقة، نتج عنها ارتياح مسؤولي صندوق النقد الدولي ل”تطبيق حكومة مصر البرنامج الاقتصادي المتفق عليه في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 مع الصندوق”، أي عندما اقترضت حكومة الجيش ورجال الأعمال 12 مليار دولار، يُقدّم على دفعات مشروطة بالتزام الحكومة بتطبيق الخطوات المتفق عليها، طيلة ثلاث سنوات، وتتضمن شروطُ صندوق النقد الدولي خَفْضَ قيمة الجُنَيْه مقابل الدولار (من سبعة جنيهات إلى 18 جنيها مقابل الدولار)، فارتفعت قيمة الديون الخارجية بنحو 58% لتبلغ 88 مليار دولارا، وارتفعت قيمة فوائد الدّيون الحُكُومية إلى حوالي 40% من الإنفاق الحكومي السنوي، أي ما يزيد عن إجمالي حصة الرواتب، مع مقدار حصة دعم السلع والخدمات، إضافةً إلى قيمة حصة الإستثمارات الحكومية (الحصص الثلاثة مجتمعة)، بحسب بيانات المصرف المركزي المصري، ولئن ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 11% فأنها كانت في قطاع النفط والغاز، الذي اكتشفته شركات المحروقات الأجنبية في سواحل مصر، مقابل انسحاب استثمارات (وخروجها من مصر) بقيمة ستة مليارات دولارا، خلال الربع الثاني من سنة 2018، بسبب ارتفاع نسب الفائدة في البلدان الرّأسمالية المتطورة، ويمثل هذا المبلغ حوالي 25% من الإستثمارات، وارتفعت قيمة مبيعات الدّولة من “أدوات دَيْن” (أي رهن وَبَيْع ممتلكات الدولة والشعب) للمستثمرين الأجانب من 500 مليون دولارا قبل نهاية 2017 إلى 23 مليار دولار في آذار/مارس 2018… أما المواطن المصري، فيهتم بشكل أساسي بمستوى الأسعار التي ارتفعت بفعل تقليص الدّعم الحكومي، فزادت أسعار الغذاء (الخبز ومشتقات الحبوب) والوقود (بنسب تتراوح بين 30% و 80% دفعة واحدة) والكهرباء والمياه، كما ارتفعت أسعار النقل، وتعتبر مصر أكبر مستورد عالمي للحبوب، بالعملة الأجنبية، مما يرفع أسعارها، في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية (الجنيه)، وبفعل تطبيق الحكومة ضريبة القيمة المضافة، وتوسيعها (مثلما فعلت حكومة الأردن) منذ أيلول/سبتمبر 2016، وارتفعت أسعار الإستهلاك (ما يُسَمّى نسبة التّضَخّم) إلى 30,7% سنة 2017، بعد خفض قيمة الجُنَيْه (أو ما يُسَمّى “التّعْويم”)، ولم ترتفع الرواتب، بل انخفضت في مجموعها، سواء من حيث القيمة أو من حيث الحجم، وتراجع مستوى التضخم، لكن صندوق النقد الدولي يتوقع بلوغ النسبة 21% بنهاية سنة 2018، ويُراقب خبراء صندوق النقد الدولي عن كثب (كعادتهم) درجة التزام الحكومة بشروط الصندوق، ويُقَيِّمون عمل الحكومة ويفرضون قرارات سياسية واقتصادية ويرفضون قرارات أو مشاريع قوانين أُخْرى، ومن بينها فرض زيادة الضرائب على دخل الفقراء، ورفض زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات، ويتطلب تدخل صندوق النقد الدولي في إدارة شؤون البلاد، لَجْمَ حرية الرأي والتعبير، لذلك رافقت القُروض، في كل مكان، حملات قمع وتشويه للمناضلين التّقدّمِيِّين والنّقابيِّين، وإعادة الإعتبار للعُملاء، وهو ما يحصل في مجمل البلدان العربية، وبالأخص في مصر، حيث ضاقت مساحات التّعْبِير إلى ما دون الحد الأدنى…

في لبنان:

تفتقد ميزانية لبنان للتوازن بسبب انخفاض الإيرادات مقارنة بالنفقات، وتحتاج الدولة إلى مداخيل إضافية لتحقيق هدفين، الأول، سداد الديون المرتفعة (ومعها خدمة الدّيُون) والثاني، الإنفاق على الرواتب والبرامج الحكومية، وقُدِّرت إيرادات الدولة سنة 2018 بنحو 12 مليار دولارا (من ميزانية قدرها 19,1 مليار دولارا)، مما يرفع عجز الميزانية إلى حوالي سبعة مليارات دولارا، أو ما يُعادل 37% من نفقات الميزانية، وفق مصرف “ميريل لينش”، وتلجأ الدولة كل سنة إلى الدُّيُون لسدّ العجز، وليس للإستثمار في مشاريع منتجة (وحالُ لبنان في هذا الباب، مثل حال المغرب وتونس ومصر والأردن)، وتُمثّل الديون المحلّية (من المصارف الموجودة في لبنان) نسبة 70% من إجمالي الدّيون الحكومية، بفائدة نسبتها 9%، وتُمثل الدّيون الخارجية بالدولار نسبة 30%، بفائدة نسبتها 7%، وبلغت القيمة الإجمالية للدين 80 مليار دولار، أو ما يعادل نسبة 150% من الناتج المحلي الإجمالي (المقدّر بــ51,85 مليار دولار) سنة 2017، وهي ثالث أعلى نسبة في العالم (بعد اليابان واليونان)، وتشير التوقعات إلى ارتفاع نسبة الدين إلى 160% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية سنة 2021، وارتفاع قيمة خدمة الدّين إلى حوالي 60% من ميزانية الدولة سنة 2021، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وتفوق قيمة خدمة الدّين خمسة مليارات دولارا سنة 2018، أو ما يعادل 25% من ميزانية الدولة لسنة 2018، والمقدّرة بـ19,1 مليار دولارا…

يتميز لبنان (مقارنة بالدول العربية الأخرى) بتضخّم القطاع المالي والمصرفي، وتمتلك المصارف اللبنانية (ومن بينها مصرف لبنان المركزي) نحو 85% من دُيون الدولة، سواء بالليرة المَحَلِّية أو بالدّولار، ويتمثل الإستثناء اللبناني في ارتفاع قيمة الودائع لدى المصارف إلى نحو 200 مليار دولار، أو ما يُعادل أربعة أَضْعاف الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2017، وذلك بفضل ارتفاع فواعد الإيداع في المصارف اللبنانية، وتمثل ودائع المغتربين اللبنانيين (وعددهم يفوق السكان اللبنانيين في لبنان) حوالي 40% من الحجم الإجمالي لودائع المصارف، ومعظمها (أكثر من 80% ) مودعة بالدولار، لكن الحكومات المتعاقبة تستخدم هذه المبالغ بالدولار، لاستيراد 80% من حاجة البلاد للسلع الإستهلاكية، ومع انخفاض حجم الودائع (بالدّولار) منذ 2016، أصبحت النفقات بالدولار تفوق الإيرادات (المتأتِّيَة من الودائع)، مما يُهدِّدُ بانهيار الليرة اللبنانية التي بقيت متماسكة حتى خلال فترة الحرب الأهلية (1975 -1990)، ولكن ربطها بالدولار سنة 1997، وتثبيت قيمتها بسعر 1507,5 ليرة، مقابل الدولار، يرتهن لقُدْرَة المصرف المركزي على توفير الدولار والليرة في أي وقت، وبمقدار ما تستهلك السوق الداخلية، بالإضافة إلى توفير مبلغ الدولارات الذي تحتاجه الدولة لتوريد حاجيات البلاد من الخارج، بالعملة الأجنبية، لكن اقتصاد البلاد هشّ ولا ينتج ثروات تُمَكِّن من التراكم الرأسمالي ومن القدرة على الإدّخار، ولا تُمثل الإستثمارات المنتجة سوى 1% من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة ضعيفة جدّا إذ يبلغ المعدل العالمي للإستثمار المُنْتِج 8,2% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تحتاج البنية التحتية اللبنانية إلى صيانة عاجلة، مع ضُعْف نسبة النمو (أقل من 2% متوقَّعَة سنة 2018)، مقارنة بارتفاع نسبة التّضَخّم (6,3% خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2018)…

من جهة أخرى يتميز لبنان بصيغة الحُكم الإستثنائية التي تراعي توازنًا طائفيّا فَرَضَهُ الإستعمار الفرنسي، مما يجعل احتلال كافة المناصب (بما فيها المناصب الحكومية والنِّيابية ومناصب الحُكْم المَحَلِّي) والوظائف حكْرًا على المُقرّبِين من زعماء الطوائف، مع استبعاد الكفاءات المستقلة أو أصحاب الخبرات الذين يرفضون الإستقواء بنفوذ “طائفتهم”، أو الخُضُوع لزعماء الطوائف، وخَلَقَ هذا الوضع منظومة “شَرْعِيّة” للفساد والوساطات والسّرقات والمَحْسُوبِيّة…

في الأردن:

بلغ حجم الدين العام نسبة 248% من إجمالي الناتج المحلي سنة 1987 وارتفعت النسبة لتَصِلَ إلى 264% سنة 1989، وهي السنة التي لجأت خلالها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي، وهي كذلك السنة التي شهدت احتجاجات واسعة في البلاد، ضد ارتفاع أسعار الغذاء ورفع الدّعم، كشرط من شروط صندوق النقد الدولي، ولا تزال الحكومات المتعاقبة تُعاني من تبعات هذه العلاقة غير المتكافئة مع صندوق النقد الدولي، وتكررت الإنتفاضات (ومن بينها احتجاجات سنوات 2012 و2016 وصيف 2018…)، وبما إن اقتصاد البلاد يعتمد على صادرات الفوسفات وعلى تصدير بعض الإنتاج الزراعي والصناعي نحو الخليج، ولكنه في مُجمَلِهِ اقتصاد ريعي وغير إنتاجي، وتعتمد احتياطيات المصرف المركزي من العملة الأجنبية على تحويلات المغتربين وعلى السياحة، وبعض المنح الأمريكية والخليجية، جزاء الدّور الوظيفي الذي يُؤَدِّيه نظام شرق الأردن، في الإستراتيجية الأمريكية والصهيونية في المشرق العربي، إذ أصبح النظام الأردني أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في المشرق العربي، واعتمدت الحكومة على المنح والمساعدات الخارجية لِسَدِّ العجز المُسْتَمِر للموازنة، وتراجع العجز بالفعل بين سني 1992 و1996، لكن انخفاض العجز يُخْفِي وراءه مأساة فُقراء وعُمّال البلاد الذين تضرّرُوا من “برنامج الإصلاح الهيكلي” الذي يفرضه صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، كشرط من شروط القروض التي طلبها وحصل عليها الأردن، كما يُخفي انخفاضُ العجزِ الفوائدَ التي جَنَاهَا  الأردن من العدوان الأمريكي على العراق، وهروب الأموال العراقية إلى الأردن (وغيره)، مما رفع نسبة نمو الإقتصاد الأردني إلى 14% سنة 1992، ثم استفاد الأردن من الدعم المالي الأجنبي بعنوان “مكافآت سياسية” إثر توقيع معاهدة وادي عربة، وما تَلاها من تطبيع مع الكيان الصهيوني (1994)، وتَواصل انخفاض قيمة الدّين العام بفضل استثمارات العراقيين الذين غادروا بلادهم بعد احتلال 2003، حتى انخفَضَتْ نسبة الدَّيْن العام إلى نحو 55% من إجمالي الناتج المحلي سنة 2008، وهو أدنى مستوى لها، منذ 1989، وحقق الناتج المحلي نموًّا استثنائيًّا بين سنَتَيْ 2005 و2008، وتمكنت الحكومة، بفضل استثمارات العراقيين، من الخروج (المُؤَقّت) عن وصاية صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ليس بفضل الإستثمار أو صلابة الإقتصاد، ولكن بفضل “المُنَشِّطَات” الإصطناعية الخارجية (المنح والمساعدات)، ولكن الإقتصاد الأردني هش وتابع ولا يعتمد على الإنتاج، فتأثر بالأزمة المالية العالمية سنة 2008، ثم بانتفاضات 2011، وتأثّر سَلْبًا (مثل الإقتصاد اللبناني) بالحرب العدوانية على سوريا، وبكساد قطاع السياحة في كافة البلدان العربية (باستثناء المغرب)، فارتفع عجز الميزانية وارتفعت الدّيون العمومية إلى نسبة 80% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2012 وإلى نسبة 93,4% سنة 2015، وإلى نسبة 96,1% خلال النصف الأول من سنة 2018، وقاربت قيمة الدّين العام 28 مليار دينارًا أو ما يفوق  39,3 مليار دولارا، وفق نشرة وزارة المالية الأردنية بعنوان “نشرة الدين العام للربع الثاني من سنة 2018″، كما ارتفعت البطالة، خصوصًا بعد عودة الآلاف من العاملين الأردنيين بالخليج، نتيجة الأزمة التي خَلَّفَها انخفاض أسعار النفط، وطرد العمال المهاجرين من السعودية…

حاولت الحكومة الأردنية تخفيض عجز الميزانية، عبر تطبيق وَصَفَاتِ صندوق النقد الدولي (التي أدّت إلى الإنتفاضات، وآخرها انتفاضة صيف 2018)، ومن بينها تقليص النفقات العامة وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية (وفي مقدمتها الخُبْز) ورفع أسعار المحروقات والكهرباء، وزيادة إيرادات الدولة عبر إقرار ضرائب مباشرة (على الدّخل) وغير مباشرة (على الإستهلاك والخدمات)، ولكن تطبيق  “برنامج الإصلاح الاقتصادي” الذي أمر به صندوق النقد الدّولي أدى إلى زيادة حجم ونسبة الدّين العام، من الناتج المحلي الإجمالي، وإلى ارتفاع العجز في الميزانية، كما زاد من نسبة البطالة، بسبب خفض الإنفاق الحكومي وتجميد التوظيف، وبيع مؤسسات القطاع العام في إطار الخَصْخَصَة…

مثّلت احتجاجات حزيران 2018 نُقْلَة نَوْعِيّة في رفض المواطنين لسياسة الحكومات المتعاقبة، والتي يرعاها صندوق النقد الدولي والإمبريالية الأمريكية، وبموازاة هذه الإحتجاجات، زادت حملات مقاطعة الكيان الصهيوني وبضائعه، مما أثار نقاشًا واسعا حول “الديمقراطية” في الأردن وضرورة مراعاة النظام لرأي المواطنين بشأن البرامج الإقتصادية، وبشأن العلاقات الخارجية، والإستراتيجيات الإقتصادية، المُرْتَبِطة بالسيادة (مثل صفقة شراء الغاز المَسْرُوق من فلسطين المحتلّة)، مما يتعارض مع عادات النظام (في الأردن وفي بلدان عربية أخرى) في فَرْضِ إجراءات سياسية واقتصادية، دون الرجوع إلى الشعب الذي سوف يتحمل تبعات هذه القرارات الفَوْقِيّة…

خاتمة:

عرفت معظم البلدان العربية انتفاضات أُطْلِق عليها اسم “انتفاضات الخُبْز” أو انتفاضات صندوق النقد الدّولي، ضد ارتفاع أسعار الغذاء، والطحين (الدقيق) والخُبْز بشكل خاص، وذلك منذ سبعينات وثمانينات  القرن العشرين (مصر والمغرب وتونس والأردن)، إلى غاية صيف 2018 (الأردن والسودان)، لأن نفس الأسباب (ارتفاع الأسعار وارتفاع نسبة البطالة والفقر) تُؤَدِّي إلى نفس النّتائج (الإنتفاضات أو الثّورات)، لكن الوضع لا يتغير (لصالح الفقراء والكادحين) سوى بالعمل الجماعي والمُنظم والهادِف (بخلاف رُدود الفعل، والتحركات العَفْوِية)، وهذا من دور الأحزاب والقُوى السياسية، وأظهرت التّجربة في الوطن العربي، خصوصًا منذ نهاية سنة 2010 إلى 2018، غياب القوة المُنظمة التي تعمل لصالح الطبقة العاملة والمُنْتِجِين والأُجَراء والفُقراء، وغياب برنامج بديل، يطرح نمط نمو مُغاير لما هو سائد، أي غياب برنامج مُفَصّل للإعتماد على الموارد المحلية (موارد مادية وقُوى بشرية، وخبرات…) لتحويل الإقتصاد الرّيعي أو المُعتمد على الدّيون، إلى اقتصاد يُنْتِجُ ما يُلَبِّي حاجة المواطنين (أو معظم الحاجيات)، مع إقرار تجميد تسديد الدّيْن وخدمة الدّين، إلى أن تتشكّل لجنة دولية مُسْتقِلّة تُراجع العقود مع الدّائنين، والشّروط المُجحفة ومن بينها تلك الشروط التي تجعل البلدان الفقيرة تسدد أَضْعاف قيمة أصْل الدّين، وذلك بهدف تحويل قيمة هذه الديون إلى استثمارات في قطاعات مُنْتِجَة، تَدْعَمُ استقلالية القَرار السّيادي، وتُلْغِي تدخّل الدائنين، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي، في تسيير شؤون البلدان…

* البيانات من موقع البنك العالمي + صحيفة “غارديان” + مجلة “أوريانت 21” – تشرين الثاني/نوفمبر 2018 

قد يعجبك ايضا