استعمار الذات … الأصالة والحداثة في الخطاب السياسي العربي / طارق فاخوري

نتيجة بحث الصور عن طارق فاخوري

طارق فاخوري ( الأردن ) الأربعاء 7/11/2018 م …




صدر كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد في العام ١٩٧٨، محدثاًثورة فكرية واسعة النطاق في الأوساط الثقافية والسياسية عموماً وفي الأوساط المهتمة بالشرق الأوسط على وجه الخصوص. يُقدّم سعيد في الكتاب تعريفين لهذه الظاهرة:فبمعناه الضيق، يُعرَّف الاستشراق كميدانأكاديمي من ميادين العلم التقليدي، يدّعي انه يهدف الى دراسة الشرق دراسة سليمة؛ وبمعناه الواسع فالاستشراق هو عبارة عن منظومة فكرية هائلة مبنية على ما أسميه هنا “ميتافيزيقا الاستشراق”، أي على افتراض ان هناك فارق جذري ابتدائي ودائم ما بين الشرق باعتباره شرقاً والغرب باعتباره غرباً. ويُبيّنسعيد ان هذه المنظومة الفكرية بكل مؤسساتها العلمية والسياسية والثقافية والفنية متورطة بشكل جوهري في مشروع الاستعمار الذي يهدف الى الهيمنة الشاملة على شعوب العالم وإخضاعها ونهب مواردها الطبيعية. أو بصياغة أكثر تجريدية، يُبيّن مدى تشابكالنظام المعرفي الاستشراقي بالسلطة السياسية والثقافية، حيث أصبح الاستشراق مؤسسة شاملة للتعامل مع الشرق: لوصفه، فهمه، تدريسه، وبنهاية المطاف، للحكم والتسلط عليه. في هذا السياق نجد تصريحات المستعمرين بأنهم يعرفون ويفهمون الشرقيين أكثر مماهؤلاء يعرفون أنفسهم، ويستخلصون، بالتالي، ان هذه الشعوب ليست قادرة على الحكم الذاتي بل انها بطبيعتها تستدعي الحكم الخارجي.

تتكون الميتافيزيقا الاستشراقية من اسطورة الطبائع الثابتة والموجودة منذ الأزل.لذلك، على سبيل المثال،نرىتأكيدات البعض بأن التفوق العسكري والاقتصادي الغربي لم يأت نتيجة لصيرورات تاريخية متبدلة بل يعود بالتحليل الأخير الى الجوهر الثقافي الغربي المتفوق والذي يتسم بالعقلانية والرجولة والفضيلة، والذي يُصوَّر كنقيض للجوهر الثقافي الشرقي الذي هو، حسب هذه الميثولوجيا،غير منطقي وعاطفي وضعيف. تتحول وقائع تاريخية وجغرافية نسبية وزائلة، اذاً، الى مقولات ضرورية مُطلقة، لا علاقة لها بالأوضاع المادية الراهنة والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

ولعل أهم ما يريد سعيد قوله في هذا الصدد هو التالي:

اولاً، ان الصورة الاستشراقية للشرق تنطوي أساسا على قناعات عنصرية بحتة، وأن المنظومة المعرفية التي تكونت حول هذه الصورة متورطة اساسيا بمشروع الاستعمار وما يتطلبه من التسلط على الآخر.

ثانياً، أن هذه الميتافيزيقا تُبهِم أكثر مما توضِح، لأنهامبنية على صورة مختَزلة للثقافة، مُجرّدة كلياً من تحولات وتخبطات التاريخ. فالثقافات ليست كيانات ثابتة متماسكةفردياًومنفصلة كليا عن بعضها البعض،بل هي نتاج تاريخي متغير، وتفتقر الى حدود واضحة وثابتة للفصل فيما بينها. وفي كل مجتمع نجد ثقافات متعددة: ثقافة السلطة وثقافات مضادة، كل منهما تتطور عضوياً، قد تبدو متماسكة داخلياً أحيانا ومتقلبة متناقضة في أحيان أخرى، تتسرب بعضها الى البعض الآخر. فحتى عبر القارات نرى انتقال الأفكار والمعتقدات والقيم والاساطير. لا بد، اذاً، من فهم الثقافة بمنظور تاريخي، بدلاً من الاستناد الى نمط من التفكير قائم على التسليم بأسطورة الطبائع الثابتة وانشطار العالم الى اشطارٍ ثقافية متناقضة جوهرياً ومُجردّة من التاريخ.

وكثيراً ما تتجلى ميتافيزيقا الاستشراقهذه في الخطاب السياسيالمتعلقبمفهومي “الاصالة” “والحداثة”، حيث ان الثقافة العربية او الإسلامية “الاصيلة” تُعّرف كنقيضٍ للعالم “الحديث” الغربي. وبالتالي فانضمام العالم العربي الى “الحداثة” يستدعي الإقلاع والتخلي عن التراث العربي باعتباره “متخلفا” او رجعيا بالضرورة.

أطروحتي الأساسية في هذه المقالة هي أن ميتافيزيقا الاستشراق قد تسربت إلى الخطاب السياسي العربي،وأن البعض قد استوعب نمط التفكير الاستعماري بكل تداعياته الأيدولوجية والمعرفية.

لنتأمل، للتوضيح، الخطاب السياسي الإسلامي حول مفهومي “الحداثة” و”الأصالة”. يتفق الإسلاميون المتشددون والمستشرقون على افتراضاتٍ عديدة، ولكنهما يختلفان في الاستنتاجات التي يصلان اليها. فالمستشرق والإسلامي المتشدد يتفقان، على سبيل المثال، على افتراض ان الإسلام الأصيل يدعو إلى إخضاع المرأة لسلطة زوجها أو ابيها المطلقة.وبناءً على هذا الافتراض يستنتج الإسلامي ان على الأمّة ان ترفض “الحداثة” الغربية باعتبارها انحرافاً عن الأصالةالإسلامية، بينما المستشرق يأخذ الافتراض ذاته كذريعةٍ للهيمنة على المجتمع العربي الإسلامي الذي يستدعي الاستعمار بسبب “تخلفه”الجوهري. طبعاً المستشرق لا يُدرك مدى تغلغل الفكر الأبوي الذكوريفي حجته هذه، حيث ان ما يطالب به هو”إنقاذ” المرأة العربية على ايدي الرجل الأشقر المنقذ. وهكذا تصبح قضية المرأة العربية ساحةًلمعركة ايديلوجية ضمنية تُخاض بين قوى الاستعمار والقوى الرجعية العربية حول حسنات أو سلبيات الثقافة العربية الإسلامية،وبالتالييتم تغييب صوت المرأة العربية كلياً عن المشهد السياسي، حتى عندما يدور الحوار حول قضاياها المصيرية.

ولا تقتصر هذه الظاهرة على الخطاب الإسلاميفحسب، بل قد تسرب نمط التفكير الاستشراقي نفسه إلى خطاب بعض الذين يعتبرون أنفسهم تقدميين أو ثوريين. فلا يكاد يمر يومٌ دون ان نسمع شخصية عربية بارزة تتحسر على “تخلف””العقل العربي”، أو”افتقار” الثقافة او اللغة العربية وما يشبه ذلك… فيُعلن المرء مثلاً ان “العربي لا يقرأ” أو “ليس قادراً على التفكير النقدي” او “لا يفهم الا القوة” او “لا تنفعه الديمقراطية” وكأن هذه تُعتبرحقائق بديهية ضرورية مُطلقة.بل ان مراكز أبحاث يُفترض ان تكون تنويرية تنشر أحياناًدراسات حول”العقل العربي” وما يشابه ذلك منإختلاقاتاستشراقية. هنا، ايضاً، كثيراً ما يدور الحوار في إطار الافتراض ان الحداثة هي بشكل أساسي نقيضةللكيان المُتجسَّد الكاسح الذي يُسمى “الثقافة العربية”– فيُصوَّر الانسان العربي وكأنه غير مؤهل، بشكل أو بآخر، للإسهام والمشاركة في العالم الحديث. نستطيع ان نصف هذه الظاهرة “باستعمار الذات”، كما سماها فرانز فانون في كتابه “معذوبو الأرض”.

إن مجتمعنا العربي اليوم يواجه تحديات غير مسبوقة في مجالات عدة تُستعصى على الإحصاء؛فإذا أردنا ان نتصدى لهذه التحديات الملحة فلا بدمن ان نتطرق الى جذورها الاجتماعية والثقافية ونتعامل معها باعتبارها نابعة من مجريات ومتغيرات تاريخيةمحددة. الاستناد الىمفاهيم استشراقية مُختَزلة والبحث اللانهائي عن “الأصالةالمفقودة”لا يقدمان حلولاً، بل يقودانا الى صرف النظر عن عيوب مؤسساتنا السياسية والتعليمية والاقتصادية والإقدام على جلد الذات باستمرار بدلاً من تحليل مؤسساتي دقيق ومفيد.لن نفهم أسس مآسينا السياسية ولن نلتمس مخرجاً منهاالا إذاقمنابنقد دقيقلهذه المؤسسات وسبل إصلاحها.

الاستعمار حيّ اليوم على عدة أصعدة، ولكن قد يكون استعمار الذات الذي حاولت ان أشير اليه في هذه المقالة من أخطر تجلياتالاستعمار الحديث، كونه يتخلل تفكيرنا ويقوّض قدرتنا على مواجهة وضعنا الراهن المحزن. علينا ان نحرر أنفسنا منه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا