سوار الذهب الذي “أتي ليشعل النار في حطب الشرق وحده” / حمود بن سالم السيابي

نتيجة بحث الصور عن حمود بن سالم السيابي

       حمود بن سالم السيابي  ( عمان – مسقط ) السبت 20/10/2018 م …




حين مددت يدي لأصافح الجنرال في قصر البستان بمسقط عام ١٩٨٥ كنت أدرك أنني أصافح رجلا خلع “سوار الذهب” ليلبسه التاريخ.

وكنت على يقين بأن السودان الذي يشرق في عينيه سيلزمه إبقاء سوار الذهب في ذمة التاريخ ، والتخلى عنه إلى الأبد.

وإنه لن يكون بمقدور فيضان النيلين الأبيض والأزرق ومعهما نهر عطبرة وكل بحيرات السودان من محو وعْد الجنرال بتسليم الكرسي خلال عام.

ورغم الشكوك التي غذاها الإرث العربي المشين ، إلا إن الجنرال عبدالرحمن كان استثناء العرب وإفريقيا والعالم الثالث فلم ينتظر انتهاء التاريخ الإفتراضي بتصرم العام السوداني الثقيل على صدره ليبرهن على البر بوعده ، بل كان دائم النظر لساعة يده ليحث عقاربها لتسرع.

ودائم القراءة لصفحات التقويم في جدران المساجد ليستعجل الزمن ليتحرك.

وكان يواصل متابعة تعاقب الأيام في صحف السودان ليستبق النهايات بغلق حقيبته الصغيرة ليلملم فيها بعثرة عامه الطويل فيودع قعرها مصحفه وملابسه العسكرية وبضعة بيجامات نوم ودشاديشه البيضاء وعمائمه وزجاجات عطره الرخيص وفرشاة أسنانه ورزمة رسائله الشخصية ومقاطع لبعض القصائد السودانية وصورة أمه .

وقبل أن يتصرم العام كان قد غادر القصر إلى بيته لينعم بارتداء الدشاديش الطويلة والعمائم البيضاء ، فسلَّم أمانة رئاسة الجمهورية الكرسي والخاتم ومفاتيح القصر الجمهوري وألقى بتعبه على الكرسي الأمامي لإحدى السيارات الصغيرة المخصصة لاستخدامات القصر لتسرع به إلى البيت فيتنفس النيل وشجر الدوم وغبار الحارات العتيقة.

لقد ترك الجنرال القصر طواعية وإن لم يترك السودان.

وخرج من السلطة راضيا مرضيا وإن لم يخرج من بلده الأسمر وقارته السوداء.

ورغم خروجه المدوي إلا إنه لم يسترد “سوار الذهب” ليستخدمه في الحياة اليومية من جديد ، أو ليعاود كتابته في بطاقته المدنية فقد وهب اسمه ليبقى وديعة للتاريخ .

ولم يكن حزينا على مغادرة بريق السلطة فقد كان هو نفسه البريق للسلطة ، وبخروجه انطفأ البريق ، بل كان مبعث حزنه عدم تحقق الأماني بمضاعفة استحقاقات السودان بأكثر من سوار ، وعدم تمكنه بإلباس كل شبر في السودان أسورة من نضار ، وتقليد كل  سوداني وسودانية أوسمة من زبرجد وعقيق وفيروز.

وحين يبكي العربي من البحر إلى البحر رحيل الجنرال فإنه يبكي الرحيل الثاني لعمر بن عبد العزيز أشج بني مروان.

ويبكي الطهر والزهد والنقاء في زمن يحمل فيه العربي السلاح على أخيه العربي.

ويتآمر فيه العربي على أخيه العربي.

ويقاطع فيه العربي أخاه العربي.

وتكثر فيه الألقاب” في غير مواضعها”.

ويزداد فيه انتفاخ الهررة التي تحاكي الأسود”

لقد رحل الجنرال وسواره الذهبي يتلألأ في التاريخ ، وسيرته حكاية عربية تسردها الأمهات للأطفال عن الأسطورة المفقودة للعنفوان العربي.

وحين يحصي الورثة تركة الجنرال فلن يجدوا في دشداشته على كثرة الجيوب في الدشداشة السودانية وكبر هذه الجيوب سوى مصحفه ومسواك الأراك.

ولن يجدوا بغرفة المستشفى سوى وصيته وصورة أمه وقوارير الدواء.

لقد جاء الجنرال عبدالرحمن أبيض كشمس السودان ، ورحل أبيض كالنيل الأبيض ليصدق عليه قول الفيتوري :

كأنك لم تأتِ

إلا لكي تشعل النار

في حطب الشرق وحدك

تأتي وشمسك زيتونة

والبنفسج إكليل غارك

قد يعجبك ايضا