بدلاً من أن يدعموه قتلوه, حكاية من حكايات الواقع ( قصة قصيرة ) / محمد مشرف الفقهاء

محمد مشرف الفقهاء ( الأردن ) الأربعاء 5/9/2018 م …




تعودت أن اكتب المقالة السياسية والقصيدة المحدثة لكني الليلة سأحاول أن أدخل ميدان القصة القصيرة ولتعذرني الأديبة السيدة سمر الزعبي على محاولتي دخول هذا  الميدان الذي لا أدري كم من الأخطاء والحماقات سأرتكب فيه.

قصتي ياسادتي ليست من صنع الخيال ولا من طراز ونمط حكايات الف ليلة وليلة ولا حتى من مغامرات السندباد بل هي قصة واقعية وطنية لحما ودما عظما ونخاعا فمن هو الذي لا يعرف ذلك الشاب المأدباوي المبتسم دائما لطيف الكلمة أليف المعشر ودود الصداقة الجالس لنوله يحيك البسط الصوفية المرقومة أو المفهدة او السح حسب طلب الزيائن الذين يحضرون له الصوف المغزول فيقوم بصبغة وحياكتة تحفا بألوان زاهية من يد فنان ذي ذوق رفيع تضاهي أثمن أنواع سجاد الحرير الصيني ومع هذا كله فإن دخله بالكاد يكفي أسرته رغم أنه يمتطي صهوة نوله من السابعة صباحا حتى الواحدة ظهرا حين يكون قد تم إعداد طعام الغداء وبعد فترة راحة يعود لعمله من الرابعة للحادية عشرة ليلا ..

كان تلميذا مبدعا في دراسته لكنه اضطر لترك المدرسة لمساعدة والده في أعمال الحياكة ولذا كنا نحن اصدقاؤه نمر بحانوته مساء نتسامر ونتبادل النكات والطرائف والملح ويداه ورجلاه لا تكلان عن العمل بتناغم آلة موسيقية تعزف لحنها بلا  كلل ولا ملل

ومرت الأيام وتوالت اربعون عاما حتى أصبح النول عضوا من أعضاء جسمه وهو منكب بجهده ينتزع لقمة الخبز من بخار الصباغ وركضه على يديه ورجلية ولم يكن ليدخر إلا بضعة دنانير لحاجة لطبيب أو لإكرام ضيف أو رحلة يوم جمعة إلى وادي الهيدان أو زرقاء ماعين القريبين .

وذات صباح وإذا ثلاث فتيات أنيقات المظهر جميلات الوجوه رشيقات القامة يترجلن من سيارة وقفت بباب الحانوت فاستبشر بهن خيرا وبش لهن معتقدا ان الله ساق له رزق ذاك اليوم مبكرا

ولكن وبعد حديث قصير أبلغته رئيسة الفريق أنهن يمثلن نادي دعم المهن السياحية مما زاد في ابتسامته حتى أصبحت ضحكة ترحيبية بفرج الله الذي لا ينسى من فضله أحدا ..

وحتى لا يطول الحديث أبلغته ان عليه أن ينتسب رسميا وبموجب القانون للنادي وهنا رقص قلبه طربا ما دام هناك قانون وناد لدعم المهن السياحية وتطوير الفلوكلور الشعبي والحفاظ على التراث الوطني غير ان فرحته لم تكمل حين نزل عليه الأمر نزول الصاعقة بأن عليه أن يدفع خمسمئة دينار رسوم الإنتساب للنادي أو يغلق محله

وهنا بدأت أمواج التفكير ورياح الشك واليقين تعصف برأسه

خمسمئة دينار وهو الذي لا يملك

خمسين دينارا أيعقل هذا ؟؟

وهنا ضحك من كل قلبه وانشد بيتا من الشعر البدوي :

قلت آه ما ادري حلم ما ادري

علم يوماً تفسر

يا بايحاً بالعلم ْ وش هالأخبار

رحلت قافلة تطوير وتشجيع المهن السياحة لعدة أيام ثم أعادت الزيارة

لتوجه له إنذارا خطيا بين الدفع أو الإغلاق لكنه لم يعر الأمر اهتماما إلى ان اطل صباح جديد وإذا ممثلة النادي تحضر وبرفقتها مجموعة من رجال الأمن يخبرونه انه مخالف وإن لم يصحح وضعه سيغلق محله بالشمع الأحمر …

كان طلب صديقي اشبه ما يكون بآخر رغبة لرجل محكوم بالأعدام قبل وضع حبل المشنقة برقبته :

امهلوني لصباح الغد

وما أن انصرفوا حتى قام وفك النول ووضع أخشابه امامه كمن ينظر لصديق العمر الذي لفظ أنفاسه بين يديه

وفي اليوم التالي كان يجلس في محلة على بساط سح وأمامه منقل

فيه إبريق شاي يغلي على نار حطب ذاك النول ..

تلك هي قصة صديقي المرحوم ضرار عبد الفتاح الحايك الذي ثوى في قبرة والحسرة لم تفارق صدره يوما …

قصة رثاء ووفاء كتبها: محمد مشرف الفقهاء

ملاحظة: مدينة مادبا هي مدينة تاريخية تقع على بعد ثلاثين كيلومتراً في  الجنوب الغربي من مدينة عمّان عاصمة الأردن, رحم الله شهيد لقمة العيش والقهر الكادح (ضرار عبد الفتاح الحايك), هذه القصة ليست يتيمة بل هي قصة من قصص القهر التي تندرج  تحت ممارسات رسمية ممنهجة لقهر الناس بمسمى التنمية والتطوير.

قد يعجبك ايضا