للدول لا لأنظمتها / د. فايز رشيد




د. فايز رشيد ( الخميس ) 28/6/2018 م …

لعل محمد حسنين هيكل، أعطى درسا كبيرا ومهمّا لكل العاملين في الصحافة كما الكتّاب، عندما عنون كتابه المهم بـ»لمصر.. لا لعبدالناصر» على الرغم من العلاقة الوثيقة بين الرجلين، وعلى الرّغم من أنّ الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات التي كتبها هيكل عام 74 ونشرت خارج مصر، والتي يفنّد فيها الاتهامات التي صدرت ضد الرئيس عبد الناصر في إطار حرب التشويه، التي شنها كثيرون وقتها عليه، بمعونة الأدعياء ومتحيني الفرص من الانتهازيين، وأعداء عبد الناصر الخارجيين، بالإضافة إلى وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية، التي ينسب إليها هيكل الحملة ككل، ويروي مخطط اغتيال عبد الناصر معنويا، الذي جاء تالياً بعد فشل الوكالة في اغتياله مادياً بعد عدة محاولات مثبتة، كتب عنها كثيرون منهم هشام شرابي وغيره.
درسْ هيكل في كتابه تمثّل في أن الولاء يكون للدولة لا لرئيسها، ولا لنظامها، مهما فعل الرئيس في سبيل وطنه، رغم أن إنجازات عبدالناصر كانت أكثر من أن تُعَدّ أو أن تحصى، ولم ينحصر دوره على الصعيد المصري فقط، وإنما تعداه إلى الصعيد العربي أيضاً، وعلى الأصعدة الإقليمية، والقارّية والعالمية في نصرة قضايا حركات التحرر الوطني عربيا وعالميا. ولهذا حاز تأييد الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وقضى آخر لحظات حياته في لمّ الشمل العربي، وفي سبيل مصلحة الأمة العربية، لهذا بكته الجماهير العربية يوم وفاته، بعدها ظلّ كارهوه يحاولون تشويه سمعته ميّتاً، فلم يستطيعوا، وثبت قطعا أنه مات فقيرا، وكان رصيده البنكي لا يتجاوز الـ3000 جنيه مصري. وبعد ثورة 23 يوليو 52 ظلّ يسكن في بيته في منشيّة البكري. فقط جرى توسيعه قليلا بعد تسلّمه لرئاسة الجمهورية ليتناسب مع مهامه كرئيس دولة.
في زمننا الحاضر، تقرن العديد من الدول العربية بأسماء رؤسائها، الذين يتفننون في إظهار ثرائهم، وبطانة الزعيم وجوقاته الإعلامية المتعددة، تصدر بيانات الإشادة ببعد نظره وحكمته وعطائه لشعبه ولأمته وللإنسانية جمعاء! أما التغني بالقضية الفلسطينية فحدّث ولا حرج: تُقَرّر المليارات للمحافظة على عروبة القدس، وتمرّ الأشهر والسنوات ولا يصل القدس دولار واحد مما هو مقرّر.
وبدأت أسطوانة جديدة في عالم «الأعراب» تنادي بـ»يهودية إسرائيل» و»حق اليهود التاريخي في أرض فلسطين» و»أن الفلسطينيين طارئون»! إلى آخر هذه المقولات، التي تقال لتبرير الحلف بين إسرائيل وبعض العرب، الذي ظاهره محاربة الإرهاب، وحقيقته تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية تصفية تامة وبأيدٍ عربية، وتدعيم الوجود الإسرائيلي في المنطقة، لتكون إسرائيل الدولة المقرّرة في رسم أجندتها حاليا ومستقبلاً.
إقران الدولة بزعيمها هو نهج عربي عام، كما التغنّي بأمجاده وفضائله، حتى أنهم يصورون، الشعوب العربيّة تتنفس الهواء فقط بفضل حكّامها، ولولا أفضالهم لم ولن يتنفس أي عربي الهواء! رغم أن شرائح كبيرة من المجتمعات العربية تعاني الفاقة والعَوَز وعدم القدرة على تدبير القوت اليومي لعائلاتها، ومنع الحرّيات عن الجماهير بمختلف أشكالها وإخفاء المعتقلين في سجون النظام، التي لا يعرف مواقعها إلا الله والحاكم الذي جاء بالصدفة وأصبح حاكما، كما المخابرات الظلامية، يُمنع كل نقد في بلدان «الديمقراطية» المشوّهة والمفصّلة على هوى الحاكم الطاغوت! سوى مقالات الإشادة بالزعيم، الذي تحتلّ أخباره ثلاثة أرباع نشرات الأخبار، بحيث عزف المشاهد العربي عن مشاهدة القنوات الرسمية التابعة للأنظمة.
من يقرأ عن تجربة الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي قاد مقاومة بلاده في الحرب العالمية الثانية، وترأس حكومة فرنسا الحرة في لندن، ثم ترأس اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، التي أصبحت في ما بعد الحكومة الفرنسية المؤقتة. سيجد أن كلّ تاريخ ديغول الوطني لم يشفع له لدى الشعب الفرنسي حينما خرج في مظاهرات مناوئة لسياساته عام 1968، واستجابة لمطالب المتظاهرين الذين شكل الطلاب والعمال الغالبية بينهم، قرر ديغول أن يجري استفتاء حول تطبيق المزيد من اللامركزية في فرنسا، وتعهد قبل إجراء الاستفتاء بالتنحي عن منصبه في حال لم توافق نسبة كبيرة من الفرنسيين على تطبيق اللامركزية في البلاد. وفي مساء يوم 28 أبريل عام 1969 أعلن ديغول تنحيه عن منصبه، بعد أن حققت الموافقة على تطبيق اللامركزية نسبة أقل قليلا من النسبة التي حددها سلفا .
في عالمنا العربي تجري انتخابات الرؤساء، وتأتي نتائج الرئيس المرشّح بأكثر من 90% (هذا إذا لم تكن 99.99%) ومؤخرا، بدأ بعض الرؤساء العرب، الإيعاز لبعض المرشحين للدخول في انتخابات الرئاسة لتزويقها! أما من يشكل خطرا حقيقيا على الرئيس، فيجري اختراع مشاكل له فيصدر قرار من المحكمة الدستورية بمنعه من الترّشح! في عالمنا العربي لن ينزاح الحاكم عن منصبه إلا بالموت! بالفعل، صدق الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما صرخ في وجه والي مصر قائلا، «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» وكان ذلك نتيجة ظلم مارسه الوالي بحق ابن قبطي. الفاروق سأل الناس قائلا: «من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه». فقام رجل بدوي من عامة الناس وقال:»والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا» فقال عمر: «الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه»، ولم تقطع رقبة البدوي، ولم يتم إخفاؤه في سجن، ليجري قضم عظامه بالكماشة يومياً. الآن، لا يستطيع مواطن عربي مناقشة مسؤول صغير، وإلا لكتب فيه تقريرا بأنه يريد قلب نظام الحكم.
لا يدرك زعماء عالمنا العربي أن التواضع هو من شيم العظماء! وأن المنصب لو دام لغيرك، لما انتقل إليك! ربما لا يعرفون أننا في زمن من الصعب فيه (إن لم يكن من المستحيل، إخفاء الحقائق)، ربما يجهلون أن تحقيق الديمقراطية الحقّة هي الوسيلة للوصول إلى قلوب الجماهير والسبيل لانخراطه في الدفاع عن الوطن، إذا ما فكّرت جهة ما في الاعتداء عليه. حرّية التعبير، بما في ذلك انتقاد النظام الحاكم، هي حقوق مكفولة للإنسان ولدت معه، وهي السياج الحامي للوطن من كل المؤامرات! حرية التعبير تخلق شعوبا حرّة تطال رؤوسها السماء! عندما تتعرض أي دولة عربية لاعتداء خارجي، تقف معها كلّ الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، ولدى الكثيرين من أبناء أمتنا الاستعداد للقتال مع الدولة ضد العدو الخارجي، بغض النظر عن موقف الفرد العربي من النظام القائم على رأسها، فقانون الحياة أن الأنظمة زائلة، والدول هي الباقية، لذلك فإن تأييد الجماهير العربية منصبّ على تأييد الدول وليس على تأييد أنظمتها.

قد يعجبك ايضا