“الطائرات الورقية” والمقاومة المبدعة / حسن ابو طالب




"الطائرات الورقية" والمقاومة المبدعة
د.حسن أبو طالب ( مصر ) الأربعاء 13/6/2018 م …

بالرغم من ان إسرائيل تعيش أفضل أيامها، وأكثرها غلوا وتطرفا ووحشية وعنفا واستيطانا، فإن القلق لا يفارق أبدا سياسيا وسكانها؛ قلق على وجود إسرائيل ذاتها، وقلق آخر من عدم القدرة رغم الانحياز الامريكى المفرط والمشين على تصفية القضية الفلسطينية وفق المعايير الإسرائيلية. جزء من القلق مربوط بشعور دفين بأن الشعب الفلسطينى يمثل مشكلة عويصة لا يمكن تصفيتها، وجزء آخر راجع الى أن التوجه السائد نحو التعصب والتطرف وإنكار الحقوق الفلسطينية وقضم المزيد من الأراضى الفلسطينية وتحول امريكا لتصبح مجرد مظلة حماية للتطرف والعنجهية الاسرائيلية لم يقض على حلم الشعب الفلسطينى بتحرير أراضيه ولو بعد حين.

الأمران معا يجسدان المعضلة التى يعيشها المجتمع الاسرائيلى برمته. فالمستوطنون الذين يسرقون الارض الفلسطينية فى الضفة الغربية المحتلة يدركون انهم غاصبون ومحتلون، وأن بقاءهم فى هذه الارض المحتلة مرهون اساسا بوجود الجيش الاسرائيلى والذى يطبق سياسات باطشة وعنيفة هى جرائم حرب بامتياز، وسيأتى اليوم الذى سيحاسب عليه كل من مارس تلك الجرائم وتصور انه سوف يفلت من العقاب.
لقد بنت اسرائيل استراتيجيتها لتصفية القضية الفلسطينية على افتراض رئيسى وهو أن الضرب بعرض الحائط منهجية التفاوض مع السلطة الفلسطينية، والاستيطان الذى لا يتوقف، والتضييق بكل الأشكال والأنواع على حياة الفلسطينيين، وحصار قطاع غزة كفيل بأن يهدم إرادة الشعب الفلسطينى على رفض الفتات الذى سيطرح عليهم وهم فى أضعف حالاتهم سياسيا وعسكريا.

مثل هذا الافتراض الرئيسى يستند الى أربعة تصورات فرعية؛ أولها أن إسرائيل بقوتها العسكرية ونفوذها السياسى لدى واشنطن ودول اوروبية وروسيا تسيطر على حركة الشرق الاوسط سواء مباشرة او من خلال المساندة والانحياز الامريكى غير المحدود وغير المشكوك فيه، والثانى انه لا توجد قوة دولية او منظمة دولية يمكنها أن تحاسب اسرائيل على جرائهما ضد الفلسطينيين أو أن توقفها عن تحقيق التغيرات الكبرى التى تسعى إليها، وفى القلب منها تصفية الأبعاد القومية للقضية الفلسطينية.

والتصور الثالث هو أن ميزان القوى بين إسرائيل والفلسطينيين غير قابل للتغير لمصلحة الفلسطينيين فى مدى زمنى منظور لاعتبارات عديدة منها الانقسام الفلسطينى والتشتت العربى والسياسات الدولية التى تبتعد تماما عن مناصرة الفلسطينيين عسكريا. ورابعا أن حصار الفلسطينيين سوف يقضى على إرادتهم الجماعية فى تحدى الصلف الإسرائيلى، وانهم أخيرا سوف ينصاعون لإرادة تل أبيب بشكل أو بآخر.
هذه الرؤية الاسرائيلية المستندة الى اعتبارات آنية تلغى تماما ما يمكن أن تفعله الشعوب من أجل الحصول على حقوقها كاملة غير منقوصة، كما تتجاهل قدرة الشعوب مهما يكن القهر الذى يمارس عليها فى ابتداع اساليب مقاومة لم يتخيلها أحد من قبل، وأخيرا تنكر حقيقة أن الاحتلال سواء كان استيطانيا أو استغلاليا مصيره الزوال مهما طال عمره وزادت سنواته. وفى تاريخ الإنسانية المعاصر الكثير من الأمثلة التى استطاعت من خلالها الشعوب المؤمنة بقضيتها أن تقلب التاريخ رأسا على عقب.
قد يتصور الإسرائيليون أن انسداد الأفق السياسى الراهن للقضية الفلسطينية وتراجع المؤيدين يعنى أن هناك ظروفا مثالية لتمرير صفقة القرن المزعومة.

لكن الأحداث الجارية ورغم كل عناصر التراجع العربى فيها يثبت أن الفلسطينيين شعب لن يتنازل عن حقوقه رغم كل الصعوبات والقيود والضغوط، وأن لديه القدرة على إبداع وسائل جديدة ومبهرة للمقاومة السلمية من شأنها أن تجعل إسرائيل ذاتها تعيش على سطح من الصفيح الساخن. المقاومة السلمية فعل لا حدود له، لا نتحدث هنا عن عنف أو سلاح أو ضربات صاروخية أو نزال فى ميدان عسكرى، بل نتحدث عن فكرة بسيطة ذات نتائج كبرى ومؤثرة. إرادة المقاومة السلمية هى التى أبدعت أخيرا تطورين مهمين، أحدهما مسيرات العودة التى بدأ تنظيمها فى اليوم الذى افتتحت فيه الإدارة الأمريكية سفارة لها فى القدس المحتلة، مما أفقد هذا الحدث قيمته السياسية وشكل حصارا معنويا وسياسيا قويا لموقف واشنطن اللا قانونى واللا إنسانى.

لقد أثبتت هذه المظاهرات التى تكررت اسبوعيا رغم الكلفة الانسانية العالية التى يتحملها فلسطينيو غزة فى صورة قتلى كثر ومصابين أكثر، أنهم لن يتنازلوا عن حقوقهم فى أراضيهم المغتصبة، وأن سياسة الحصار والتجويع وقتل المتظاهرين الأبرياء السلميين بالرصاص الحى لن تكسر ابدا إرادة المقاومة السلمية، وفضح الاحتلال، وتأكيد جرائم الحرب التى لا يتوقف عن ممارستها بدعم وتأييد مطلق من الولايات المتحدة.
الأمر الثانى المبدع فعلا وهو استخدام الطائرات الورقية، وهى أصلا من أجل اللعب والترفيه البرىء، كأسلوب مقاومة فريد يرسل إشارات لدولة الاحتلال انه مهما تكن قوتها العسكرية الضخمة وتطورها التقنى فإنها تقف عاجزة أمام إرادة الشعب الأعزل ما دام مؤمنا بقضيته وبحقوقه القومية التى لا يمكن التنازل عنها. لقد انشأت إسرائيل قبتها الصاروخية كنظام دفاعى متطور وبكلفة تزيد على 2 مليار دولار لمواجهة الصواريخ المحلية الصنع التى تطلقها أحيانا فصائل المقاومة الفلسطينية العسكرية على المستوطنات المقامة فى محيط قطاع غزة، لكن هذه القبة المسماة بالحديدية تقف عاجزة تماما أمام الطائرات الورقية المحملة بشعلة من النيران حين تسقط على أرض فلسطينية مغتصبة فتحرق ما فيها من زرع أو منشآت.

والجدال السائد فى اسرائيل حاليا يكشف عن الغضب والانبهار وقلة الحيلة رغم كثرة الامكانات أمام هذا الإبداع الفلسطينى لمقاومة سلمية قليلة التكلفة ولكنها عالية التأثير. فى البداية اعتبرها الإسرائيليون مجرد أسلوب تافه، وبعد ما أحدثته من خسائر وما عبرت عنه من إرادة قوية، تحول الأمر الى إشكالية سياسية وعسكرية وتقنية.
ومهما تكن القيود والحصار فالشعوب قادرة على تخطيها، وبإرادتها الحرة تستطيع أن تقلب الموازين بأقل الامكانات. هذه حقيقة تاريخية انسانية، اثبتها الشعب الهندى فى مواجهة الاستعمار البريطانى على يد قائدها العظيم غاندى، وفى جنوب افريقيا حيث أبدع أهلها الأصلاء اسلوب العصيان المدنى لسنوات وتضحيات هائلة، وفى الحالتين انزوى الاستعمار البريطانى واختفى الفصل العنصرى الى غير رجعة. وما نراه فى الحالة الفلسطينية يبشر بنموذج فريد من المقاومة السلمية سوف تؤتى ثمارها ولو بعد حين.

قد يعجبك ايضا