ليبيا تحت براثِن النفوذ الخارجي في تسعير الاقتتال / سيلين جريزي

سيلين جريزي ( السبت ) 7/4/2018 م …




* أكاديمية وكاتبة مختصة بالقضايا العربية في باريس …

لم تكن ليبيا بلداً مُصدِّراً لليد العاملة على خِلاف مَن هم حولها من جيرانها، لكنها كانت البلد الأوحد في تلك الرُقعة الفقيرة من القارّة السوداء، التي كانت تستقطب الآلاف إن لم أقل ملايين الأيادي العامِلة من كل الأقطار، وفي كل المجالات، رغم شُحِّ بُنيتها التحتية وهشاشتها، فمن كان يُلقِّب نفسه بالقائد معمّر، لم يُعمِّر ليبيا، ولَم يترك أية بنية تحتية يترحّم المواطن الليبي من بعدها عليه ويذكره بها

 
غداة سقوط معمّر القذافي في خريف 2011، تبخّر حُلم الليبيين في الحصول على دولةٍ أفضل وواقعٍ أجمل … طالما تم التسويق لهما طيلة مخاض الثورة الليبية

إسم القذافي كان دوماً  يقترن بالخروج عن النُظم العامة والمألوفة، واختراق القوانين الدولية والأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية، أينما حلّ وارتحل. لكنه

كان مُهاباً رغم تلقائيّته وبساطته، وواقعياً رغم تظاهره بمظهر المُرتِجل في قراراته.

غداة سقوط معمّر القذافي في خريف 2011، تبخّر حُلم الليبيين في الحصول على دولةٍ أفضل وواقعٍ أجمل … طالما تم التسويق لهما طيلة مخاض الثورة الليبية.

استيقظ الليبيون على بقايا دولة تشرذمت وتهاوت بين حالمين ومُتطرّفين ومُتأدلجين وتجّار حروب وقطّاع طُرق ودول كبرى واقليمية، أغرقت ليبيا في مستنقع من الفوضى والصراعات والعنف اللامنتهي. صحا الليبيون على أصوات الأسلحة الثقيلة وبالنزول المُتسارِع نحو الجحيم.

فمع رحيل القذافي رحلت هيبة ليبيا ووحدتها وقوّتها ورفاهية أبنائها وأمنهم وأمانهم …  باختصار رحلت الدولة في ليبيا.

نُهبت خيراتها وشُرِّد الشعب الليبي في كل أنحاء المعمورة.

لم تكن ليبيا بلداً مُصدِّراً لليد العاملة على خِلاف مَن هم حولها من جيرانها، لكنها كانت البلد الأوحد في تلك الرُقعة الفقيرة من القارّة السوداء، التي كانت تستقطب الآلاف إن لم أقل ملايين الأيادي العامِلة من كل الأقطار، وفي كل المجالات، رغم شُحِّ بُنيتها التحتية وهشاشتها، فمن كان يُلقِّب نفسه بالقائد معمّر، لم يُعمِّر ليبيا، ولَم يترك أية بنية تحتية يترحّم المواطن الليبي من بعدها عليه ويذكره بها.

وكان الليبيون يسافرون لأغلب بلدان العالم من دون تأشيرات، ويرتادون أفخم الفنادق ويتعاملون ببذخٍ ٍوترفٍ بلا حدود أينما حلّوا وارتحلوا.

المِنَح الدراسية والجامعية للطلبة الليبيين كانت من أفضل مِنَح الطلبة الأجانب في كل دول العالم، ومسكن الحجّاج الليبيين في مكّة كان من أقربها للحرَم ومن أفخمها شكلاً ومضموناً، وأوروبا  كانت تعجّ بالمدارس الليبية في كل عواصمها واستقطبت أفضل الأساتذة لتدريس العربية والمُقرّرات الليبية، ناهيك عن الثقافة السياسية والمجتمع الجماهيري.

الهبوط البطيء إلى الجحيم.

واليوم بعد كل هذا أصبح بلد المليون حافِظ للقرآن لا يجد مسجداً آمناً يتعبّد فيه.

وتهاوى الدينار الليبي بعد أن كان يُزاحِم الدولار والفرنك والليرة والين والريال السعودي في قوّته واستقراره، ناهيك عن تطوّر التطرّف الجهادي الذي وجد ضالّته في الشرخ الكبير بين ورثة ثورة 2011، ومُقترحي أو بالأحرى مؤيّدي الحل العسكري على شاكِلة النموذج المصري.

لقد أدّى كل هذا التفكّك والصراعات في ليبيا إلى توتّر الهويات المحلية – والحضَرية والقبلية – التي كانت، ولمدة طويلة تلعب دور الضامِن الأساسي للحماية وأيضاً مصدراً خفيّاً للتشرذُم.

التحدّي الاستراتيجي للمُصالحة بين المدن المُتنافِسة من الزنتان ومصراتة

التسوية التي بدأت بين “الأبطال” الرئيسيين في حرب 2014 كانت تهدف في المقام الأول إلى السماح لهم باستعادة نفوذهم الضائِع على العاصمة طرابلس.

فذلك الاجتماع السرّي تسبّب في ضجّة كبرى خاصة عندما استضافت الزنتان، الأربعاء 28 مارس 2018، وفداً من مصراتة لختم المُصالحة، ففيه ظهرت صوَر فجّة وموجِعة من الماضي غير البعيد جداً: كانت صوَرا لتلك المعارك الضارية في قلب صيف 2014 بين ميليشيات الزنتان ومصراتة في طرابلس.

وكان اندلاع العنف في حينها قد هزّ ليبيا في حربها الثانية بعد الحرب التي رافقت الانتفاضة، والتي أدّت إلى سقوط معمّر القذافي في عام2011.

قد لا يبدو مهماً عند البعض أن هاتين المدينتين، وهما معاقل التمرّد السابقة، أن تكونا في حال تقاتُل أو تصالُح. لكن المشهد السياسي – العسكري لطرابلس والذي يشمل بالضرورة ليبيا بأكملها، يظهر متأثّراً بذلك حتماً.

فالزنتان المدينة المُعلّقة بسفوح جبل نفوسة على بُعد 120 كلم جنوب غرب طرابلس، ومدينة مصراتة الساحلية ذات البُنية التحتية الصناعية 200 كم شرق العاصمة، تُعدّان أهم المعاقل العسكرية الرئيسة غرب ليبيا.

المشاركون في اجتماع الزنتان-  مصراتة يقرّون ضمنياً فُقدان تأثيرهم وتهديد مصالحهم

“لقد تعلّمنا من دروس الماضي”، ذكر أحد مسؤولي الزنتان، نحن لا نضع بيضنا في سلّة واحدة بعد الآن.

ألا يوجد خطر، على أية حال، أن يتم إقحام الزنتان من قبل مصراتة في تحالفات استراتيجية جديدة لا تتوافق بالضرورة مع مصالحهم الموضوعية؟

من الواضح أن الفصائل “الأصعب” في مصراتة، التي تم تهميشها في المسار الجديد في طرابلس، تسعى إلى استخدام الزنتان من أجل نسف احتمال التوصّل إلى اتفاق بين السراج وحفتر.

هل هناك إمكانية تحرّك ومساحة حرية أكبر؟

المشاركون الأكثر انخراطاً في الاجتماع بين الزنتان ومصراتة، وتحديداً القوى التي فقدت نفوذها، لا يمثّلون حتماً الرأي العام للمدينتين. فقد أصبح السيناريو كلاسيكياً إلى حدٍ ما، في فوضى ليبيا – ما بعد الثورة-.

والمعروف في جيوسياسية المصالح، أنه عندما تبدأ المُصالحة بين معسكرين، يلجأ الخاسرون المُحتملون من كل فريق إلى الالتحاق بالتحالف المُضاد، ما يُفاقم طبيعياً تشظّي الوضع ودرجة تعقيده.

فهل سنلحظ تشكّل أحلاف جديدة في ليبيا 2018؟ ومَن الداعِم أو بالأحرى المُستفيد الأكبر من هذا التشكّل الجديد؟

لو سألنا الليبيين أحالهم الآن أفضل؟ أم أنهم في عهد الديكتاتور الطاغية كانوا أفضل حالاً وأكثر رفاهية واستقراراً؟

وهل يجب على الليبيين شُكر الغرب عامة وفرنسا خاصة أو مقت مَن شرّدهم وجوّعهم وتركهم مُضغة سائِغة تلوكها أفواه من أقنعهم أو حرّضهم للخروج ضدّ نظام القذافي؟

قد يعجبك ايضا