المتنبي يرتدي البوط العسكري .. والسيوف لاتشيب / نارام سرجون

 

 

نارام سرجون ( سورية ) الأربعاء 6/5/2015 م …

لايهزم الانسان الا عندما يقر بالواقعية وبأنه واقعي ولايجد أن من العيب رفع الرايات البيضاء المستسلمة .. فالاستسلام هو انتصار الواقعية ..

لكن القتال حتى النهاية هو تمرد على الواقعية واستهزاء بها ورفض للاعتراف بها .. ولذلك لم أنتصر يوما الا عندما قررت أن أسخر من الواقعية وراياتها البيضاء وشعاري كان دوما هو: “اما أنا .. واما الواقع” .. فأنا واياه لانجتمع على هدف ولا على عقيدة .. وكلانا لايلتقيان معا كخطين متوازيين الى الأبد .. لافي الزمان ولا في المكان ..

وأنا لاأرى خطرا على الانسان مثل واقعيته .. فاذا أردت الهزيمة في أي شأن ففتش عن الواقعية .. واذا أردت النصر فعليك بأن تقول بأن الواقع هو الذي أقرره أنا وأريده أنا فقط .. ولذلك ورغم انني أحب كل شعر المتنبي الا أن شعره الذي يمثلني ليس مباهاته وخيله وليله وقلمه وقرطاسه فقط .. بل بيت من الشعر يقول:

وفي الجسم نفس لاتشيب بشيبه ——– ولو أن مافي الوجه منه حراب

الشيب هو راية بيضاء برفعها الجسد على اعلى ناصية فيه وتعلن استسلامه للواقع والزمن والعمر والدوران حول الشمس .. ولكن النفس العنيدة لاتعترف بما يعلنه الجسد ولايدخل الشيب الى تكوينها .. وفي فلسفة المتنبي وحكمته الرفيعة تتمثل عملية الصراع بين المادة والروح .. والتنافس الذي يترجم الى صراع بين الواقع والواقعية من جهة وبين الحلم والطموح الشاهق من جهة أخرى .. وبين الموت والخلود ..

الواقعيون يقدسون قانون الجاذبية لانه رمز للواقعية المادية التي تمنع الجسم من الطيران طالما أنه بلا أجنحة .. ويقرّون أن الواقع لايقهر كما الجاذبية لاتقهر .. ومن هؤلاء ينبجس أصحاب الخيارات الواقعية في الحياة والسياسة والحرب

وهؤلاء الواقعيون هم الذين هزموا في كل الحروب اللامتكافئة .. وهم الذين قادوا الهزائم تلو الهزائم وأوهنوا الأمة .. وهؤلاء هم الذين أداروا لنا الصراع مع المشروع الصهيوني منذ مؤتمر بال في سويسرا الذي رأوا فيه قوة لاتقهر وواقعا لايكسر .. هؤلاء الواقعيون هم العرب الذين قادوا عصر النكبة وحضّروا لنا النكسة وعصر مابعد النكسة وكل الهزائم .. وهم العرب الذين خرجوا علينا بواقعية كامب ديفيد وواقعية وادي عربة وواقعية اوسلو وهم الذين أفرزوا الاعتدال العربي .. وهم العرب الذين يكتبون لنا كل يوم بواقعية في الجرائد والمجلات ويحدثوننا بواقعية الهزيمة في الفضائيات .. وهم الذين يعلموننا كيف نمسك الرايات البيضاء في الحياة وكيف لانفكر حتى في الاستراحة من رفعها والتعب من الامساك بها .. ومنهم خرجت الساداتية السياسية الواقعية بشعارها الشهير (الله!! هو احنا ح نحارب أمريكا؟) .. ومنهم خرجت المدرسة الجنبلاطية التي تتبع الواقع وتقلباته كلما تغير الواقع وتغير رايات الاستسلام حسب كل زمان وكل فاتح للبنان .. وهؤلاء منتشرون هذه الأيام في كل مكان كالدجاج .. وصارت لهم مزارع كمزارع الدواجن من المحيط الى الخليج .. لأن همم نفوسهم واقعية كواقعية الدجاج في مزارعه وأقفاصه والذي ضمرت أجنحته لأنه قرر ألا يطير وخشي أن يهوي ويتحطم لأن الواقع أقوى من الطموح .. وهل يحلم الدجاج بكسر أقفاصه والتمرد على أقداره التي تنتهي به على الموائد تحت رحمة السكاكين؟؟

أما من لايؤمن بالواقع فهم أولئك الذين لايحبون الرايات البيضاء .. ويحسون أن الطيران لايحتاج الى أجنحة بل الى نفس لها أجنحة لاتعترف برايات الجسد البيضاء التي يرفعها الجسد شيبا ناصعا في الرأس .. هؤلاء الذين لاتشيب نفوسهم هم من يصنعون سير الأبطال التاريخيين بين البشر والأنبياء .. ومنهم خرج تشي غيفارا ونلسون مانديلا وسلطان باشا الأطرش وحافظ الأسد وبشار الأسد وحسن نصر الله ..

في الحرب على سورية هناك كم هائل من النزاع بين الواقعية وبين الطموح المتوثب .. بين الشيب واللاشيب .. و بين النفوس المجنحة والأجساد التي لاأجنحة لأرواحها كما أرواح الدجاج .. وهي حرب تعكس الصراع بين المادة والروح .. وبين جسد المتنبي الذي يريد أن يتعب ويشيخ وبين نفسه العنيدة التي لاتعترف بالواقع وشعارها: اما أنا واما الواقع .. فبعض الناس كانوا كالمتنبي في همته .. وبعضهم شاخت نفسه وهرمت وتجعدت وتقوست عظامها قبل جسده الذي يبدو منتصبا كشجرة مجوفة ..

ففي بداية الحرب كان من ينظر الى المشهد السياسي يجد أنه لايقدر الا أن يكون واقعيا لأنه لامساحة لشيء الا للواقع الرهيب المتمثل في تكالب العالم كله متمثلا في 130 دولة على بلد صار مثل اليتيم .. لم يعرف التاريخ تحالفا شريرا كهذا .. ولايصدق عاقل وواقعي أن هذا التحالف سيهزمه بلد واحد .. تحالف فيه عرب وصهاينة ومسلمون وخيانات ومنشقون وفاسدون وشعوب كالقطعان من الماشية تحتفل بالجهل ووهابية دموية مهووسة بالدم والحقد ومال كبحر بلا شواطئ ونهر من سلاح بلا ضفاف وحقد وكذب وتزوير وفبركة وطوائف وملوك وغرب وناتو وحدود تطبق عليك .. فبدا أن من الجنون أن تتحدى الواقع وألا تنتمي الى مذهب الواقعية .. وبدت قلة العقل ألا تنزوي تتأمل مقهورا محسورا كسر العظم السوري وترفع شعار النأي بالنفس وانتظار مايأتي لأننا رهائن مايأتي به القدر .. ولكن الروح العالية والنفوس المجنحة التي لاتشيب هزمت الواقعية وهزمت الجسم والعين والسمع وقهرت هذه الهمم كل اثقال الجاذبية والواقعية .. وكانت كلمة رفيق نصر الله الشهيرة بأنها “خلصت” هي القوة الروحية التي تعاند الواقع وتهز الجسد هزا عنيفا وتطرحه أرضا .. وتترجم نفس المتنبي التي لاتشيب الى عدم اعتراف الا بما نريد ..

وكان المتنبي هو الذي يرتدي كل بزة عسكرية سورية وينزل قدميه في البوط العسكري السوري .. وكنت أرى نفس المتنبي التي لاتشيب وجسده في كل الشوارع والجبهات .. المتنبي الشاعر ترك جسده في قصور الأمراء ورحلت روحه من القرن العاشر الميلادي واستقرت في أجساد الشباب والرجال والعسكريين السوريين في القرن الواحد والعشرين ووقفت على الحواجز في البرد وفي الحر وسافرت من سجن حلب المركزي الى حمص والرقة والساحل ودرعا .. ولم تتعب .. وهي تقول “وفي الجسم نفس لاتشيب بشيبه ..”..

ولكن مع تطاول الحرب عاد ضخ الواقعية من جهابذة الحرب النفسية وفقهاء الواقعية .. وأطل الواقعيون الجدد برؤوسهم على الناس .. وبدؤوا يهزون أشجار الأرواح .. وبدا كل وطني يجرؤ على القول بالخلاص يغامر برأسه .. وبروحه .. وتهجم عليه وحدات الواقعيين ودواعشهم وتدفع اليه الجماهير بأسئلة الواقعية التي استلتها من صدورها المنقوعة بالانتظار الطويل والتي يطعمها الواقعيون من عزيمتهم الخائرة .. حتى صار الكتاب الذين يرصدون بورصة الرضى الجماهيري على قراءتهم للنجوم والطالع يتفننون في التشاؤم وينتقدون كل من تفاءل بالخلاص ويتبعون التقية في القول بأن مايحدث ليست له نهاية ولايبحثون عن الضوء في النفق ولايريدون ايقاد الشموع في الظلام بل وصف الظلام واكتشاف اللون الأسود .. وصارت البطولة والحكمة هي الاعتراف بالواقع وهو أن اللعبة أكبر منا جميعا .. وصرنا أصغر اللاعبين .. وزاد من هذه الواقعية ذات الرايات البيضاء طول صبر الحلفاء وتروّيهم في كل خطوة على تمادي القتلة والاكتفاء بعدم الرد عليهم واللجوء الى الصمت الغامض .. حتى صار اخراج الأوراق السرية لقوة المقاومين شيئا ينسب الى ضرورات الحرب النفسية والى مسرح اللامعقول ..رغم أن المنطق يقول بأن من صمد خمس سنوات لايحتاج الى برهان على أنه طوى مرحلة كاملة وأن مالديه من مخزون القوة الخفي الشيء الكثير وأن ماخبأه هو الذي يجب أن يفاجئ الجميع .. لأن الحرب هي المفاجأة .. وأنه حتى على المستوى العسكري يحتفظ بالنار لوقت لاتنفع فيه الا النار .. ولولا مخزون القوة المخبأ لوقت البأس لما تركنا الخصوم نتحداهم وهم يدركون أن بقاءنا واقفين نذير شؤم عليهم واعجاز ترتجف منه واقعية الدنيا كلها ..

في الحرب على سورية يسأل الناس سؤالا مشروعا عن نهاية الحرب وصيرورتها .. وهو سؤال يطرحه كل شعب وكل أمة تخوض حربا .. حتى الأميريكون الذين لم يذوقوا وبلات الحرب في غزو العراق كان وجود أبنائهم في حرب غامضة مديدة بلا أفق في العراق سببا في قلقهم واصرارهم على معرفة نهاية الحكاية .. وكان تقرير بيكر-هاميلتون هو وصفة للنهاية .. الحل بيد الأسد ونجاد .. وبالفعل بدأت النهاية منذ تلك اللحظة ..

وفي الحرب السورية لاتبدو الصورة معقدة كثيرا فهناك قوتان رئيسيتان تتحركان على الأرض هما السعودية والخليج وتركيا .. واذا كان هناك من نصيحة بقياس بيكر-هاميلتون سوري فهي أن نهاية الحرب ليست نابعة من داخل سورية بل من لجم هاتين الدولتين اللتين دون انخراطهما لاتقدر اميريكا واسرائيل والغرب على تنفيذ المشروع .. والحل هو ايجاد صيغة ما لارغامهما على النأي بالنفس عن الشأن السوري .. ولاشك أن هذا ليس بمستحيل ..وربما بدأنا نقترب من تلك المرحلة التي ترغمهما على النأي والتنحي وهذا أحد عوامل هياجهم في الجبهات ..

هناك من يريد أن يبث الروح المستسلمة ويعمل على أن ترى روح السوري مايراه الجسد بعينه ويسمعه بأذنه كي تشيب روحه قبل الجسد .. وهؤلاء يريدون أن تشيب روح المتنبي وأن يشيب الشعر والكلام الذي قاله .. لتصير طموحات المتنبي في قطف النجوم توصف بأنها ضد الجاذبية .. وحالمة .. ولو كان المتنبي في زمننا لوجد ألف كاتب وألف ناصح وفيسبوكي وخبير استراتيجي ومثقف يمضغ النفط الثقيل ويلوك أسعار النفط الخام .. وكل واحد ينصحه بأن يخجل مما قال وأن يكون واقعيا على الأرض .. ولقال بعضهم أن المتنبي يمثل دور “أحمد سعيد” في نكسة حزيران دون أي فرق .. وهو “أحمد سعيد” سيف الدولة الحمداني لأن المتنبي كان يحكي عن الصمود وعن معفر الليوث سيف الدولة وانتصاراته فيما كان الروم يحاصرونه في الحدث الحمراء ويأسرون جنوده وأبناء عمومته .. ومنهم أبو فراس الحمداني نفسه ..

ولاشك أن هؤلاء سيسخرون عندما كان المتنبي يقول لسيف الدولة:

أمعفر الليث الهزبر بسوطه … لمن ادخرت الصارم المصقولا؟؟

أي أن سيف الدولة قد أذل ليثا بسوطه وعفر وجهه في التراب ولم يضطر لامتشاق سيفه الذي ادخره لمعركة أخرى .. ولو كان هناك واقعيون ومهرجون مثل فيصل القاسم وجنرالات الثقافة النفطية ممن يلوكون النفط اللزج وينفثون الغاز من مناخيرهم ومقاعدهم كانوا سيقولون مستهزئين بالمتنبي بأن سيف الدولة لايستعمل سيفه ولايمتشقه لأن سيف الدولة لم يكن يملك سوى سوط في يده .. وأنه لاسيف في يده .. ولا سيف الا في اسمه .. وأنه لن يردّ “الا في الزمان المناسب والمكان المناسبين” لأن من لاسيف معه لن يرد الا بالسوط أو بالصوت .. وأنه سيسقط عن صهوة جواده ..

اليوم نقول ان الجيش السوري الذي نزل المتنبي في روحه العنيدة التي لاتشيب وثيابه وحذائه ويقوده الرئيس بشار الاسد الذي نزلت فيه روح سيف الدولة الذي عفر وجوه الثورجيين ووجوه قادة العالم بالسوط هو الذي سيقرر متى يخرج الصارم المصقول من غمده .. والمعركة ستقول كلاما لم يصدقه الواقعيون .. ولم يصدقه الذين لم يروا الا السوط ولم يروا لمعان السيف ..والسيوف التي في المخازن ..

لهؤلاء جميعا .. والى كل الواقعيين الذين لاأجنحة لأرواحهم ولهم قلوب الدجاج وواقعيته .. لاتعتقدوا أن النفس يمكن أن تصبغ لون شعرها .. فمن شابت نفسه وابيضّ رأسها.. لاينفع معها كل ألوان العالم وأصباغه .. ولن ترى النور لانها تمضغ كل ظلام الدنيا والوجود ..

وقريبا ستجدون ماذا يعني أن تنتظر بسلاحك المصقول .. وأن لاتشيب روحك .. وماذا يعني أن يكون أبو الطيب المتنبي أستاذنا وأستاذ أرواحنا .. ويرتدي البوط العسكري في حلب فلايشيب .. وأن نكون نحن خريجي مدرسة سيف الدولة .. وحملة سوطه .. وحملة سيفه .. وبأن زمن السوط قد أزفت نهايته .. وان زمن السيف المصقول قد بدأ .. وأن النفوس التي لاتشيب لاتشيب سيوفها ..

.. وسيعلم العالم من هاهنا أي يقين نعنيه ونحمله واي ثقة بالنفس لدينا حتى أننا نؤمن أننا نحن من نقول للواقع الذي نريد: كن … فيكون ..

قد يعجبك ايضا