دراسة هامّة … البيئة السياسية العربية والدولية عند إصدار وعد بلفور / د. علي محافظة

البيئة السياسية العربية والدولية عند إصدار وعد بلفور

 د. علي محافظة ( الأردن ) الإثنين 5/3/2018 م …




إن فكرة تهجير اليهود من أوروبا إلى فلسطين، في جذورها، فكرة مسيحية أوروبية، الغاية منها التخلص من الأقليات اليهودية في المجتمعات الأوروبية التي كانت تنافس الأوروبيين في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية، وتعيش في أحياء مستقلة خاصة بها تسمى الغيتو Ghetto، منعزلة لا تختلط ببقية فئات وطبقات المجتمعات الأوروبية. وكان لهذه الفكرة دافع ديني مرتبط بالمعتقدات المسيحية بعودة المسيح إلى الأرض في آخر الزمان، فعودة اليهود إلى فلسطين من علامات نهاية العالم، إذ إنهم، وفق العقيدة المسيحية، سوف يتحولون إلى المسيحية تمهيداً لنزول المسيح إلى أرض فلسطين.

وقد ربطت حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن الـ 16 بقيادة مارتن لوثر Martin Luther وجان كالفن Jean Calvin وأولريش زفنعله Ulrich Zwingle، بوضوح بين فكرة نهاية العالم وتحول اليهود إلى المسيحية وعودتهم إلى فلسطين. وقد عبَّر عن هذا المعتقد رجل الدين الإنجليزي توماس برايتمان Thomas Brightman حينما كتب “هل سيعودون ثانية إلى القدس؟ هذا أمر مؤكد. فالأنبياء يؤكدون ذلك في كل مكان ويحومون حولها”. وتمنى برايتمان أن يتحول اليهود إلى المسيحية أو يغادروا أوروبا إلى الأبد.

وبعد مئة سنة كتب اللاهوتي والفيلسوف الطبيعي الألماني هنري أولدنبورغ Henry Oldenburg: “إذا توفرت الفرصة في ظلّ التغيرات المعرضة لها الشؤون البشرية، فقد ينشئ اليهود إمبراطوريتهم من جديد. وقد يختارهم الله مرة أخرى”[3].

ولا شكّ أن كراهية المسيحيين الأوروبيين لليهود المعروفة بالعداء للسامية anti-Semitism كانت وراء هذه الأقوال التي تحولت في القرن الـ 17 إلى حركة اجتماعية. فقد نظم العديد من المطهرين (البيوريتان Puritans) الإنجليز حركة لمساعدة اليهود على الاستيطان في فلسطين، وقدموا عريضة إلى حكومة أوليفر كرمويل Oliver Cromwell سنة 1649 جاء فيها: “إن الأمة الإنكليزية مع سكان الأراضي المنخفضة سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء إسرائيل وبناتها على سفنهم إلى الأرض الموعودة لأجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، كما يصبح إرثاً دائماً لهم”[4].

وتطورت هذه الدعوة إلى أهداف استراتيجية استعمارية في نهاية القرن الـ 18 وخلال القرنين الـ 19 والـ 20. فقد عرضت حكومة الإدارة في فرنسا سنة 1798 إنشاء كومنولث يهودي في فلسطين حال نجاح الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت Napoleon Bonaparte في احتلال مصر والمشرق العربي، مقابل تمويل اليهود للحملة إذ كانت الحكومة الفرنسية في ضائقة مالية، ومقابل قيامهم ببث الفوضى والاضطراب في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي. ولما وصل نابليون إلى مصر سنة 1798 أصدر بياناً حثّ فيه يهود آسيا وإفريقيا على الالتفاف حول رايته من أجل “إعادة مجدهم الغابر، وإعادة بناء مملكة القدس القديمة”[5].

وغدت هذه الفكرة تتردد على ألسنة السياسيين والكتّاب في بريطانيا منذ بداية القرن الـ 19، أمثال الزعيم الأسكتلندي والقائد العسكري جون ليندسي John Lindsay، والفيلسوف الإنجليزي ديفيد هارتلي David Hartley. وتمنى الرئيس الأمريكي جون آدمز John Adams (1735–1826) أن يعود اليهود إلى جبال اليهودية كأمة مستقلة.

وبدأ الإعداد لبسط النفوذ الثقافي والديني والسياسي البريطاني في فلسطين منذ بداية القرن الـ 19. ففي سنة 1804 تأسست “جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود The London Society for Promoting Christianity Amongst The Jews” والتي عرفت فيما بعد باسم “جمعية اليهود اللندنية The London Jews Society”[6].

وفي بريطانيا أيضاً قام لورد شافتسبري (لورد آشلي Ashley سابقاً) (1801–1885) بحملة واسعة من أجل إقامة وطن لليهود في فلسطين. وقد تأثر بما جاء في كتاب جيمس بتشينو James Bicheno “إعادة اليهود The Restoration of Jews”، الذي دعا فيه إلى تجميع اليهود من أنحاء العالم في فلسطين. وأقنع شافتسبري رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون Palmerston بهذه الفكرة. ولما عقد مؤتمر لندن للنظر في مستقبل محمد علي باشا سنة 1840، عرض بالمرستون مشروع توطين اليهود في فلسطين بعنوان “مشروع أرض بغير شعب لشعب بلا أرض”. وحذر شافتسبري الحكومة البريطانية من أن تقاعسها قد يدفع روسيا إلى القيام بهذا المشروع[7].

وأقنع شافتسبري بالمرستون بتعيين رفيقه المؤمن بعودة اليهود إلى فلسطين وليم يونغ William Young نائب قنصل القدس سنة 1838. وكتب شافتسبري مقالاً من ثلاثين صفحة في مجلة The London Quarterly Review بعنوان “الدولة وإحياء اليهود State and Restoration of Jews”، جاء فيه: “يجب تشجيع اليهود للعودة بأعداد كبيرة، ليصبحوا مرة أخرى مزارعين في اليهودية والجليل.. ومع أنهم باعتراف الجميع، شعب عنيد وذوو قلوب سوداء وغارقون في الانحطاط الأخلاقي والإثم والجهل بالإنجيل، فهم ليسوا أهلاً للخلاص، ولكنهم ضرورة لأمل المسيحية في الخلاص”[8].

وكان الهدف من إنشاء قنصلية بريطانية في القدس لتشجيع اليهود على العودة إلى فلسطين والوعد بحمايتهم وتحويل بعضهم إلى المسيحية. وكان أشهر القناصل البريطانيين في القدس جيمس فين James Finn الذي شغل هذا المنصب خلال الفترة 1845–1863، وكان يكره الإسلام وأعيان القدس العرب[9].

ومن أبرز الشخصيات البريطانية التي دعت وروجت لفكرة الاستعمار اليهودي الفلسطيني هنري تشرشل Henry Churchill (1814–1877)، ولورنس أوليفانت Lawrence Oliphant (1829–1888) عضو مجلس العموم البريطاني الذي دعا إلى استيطان اليهود في منطقة البلقاء في شرقي الأردن، وألّف كتاب “أرض جلعاد The Land of Gilead” وكتاب “حيفا أو الحياة في فلسطين الحديثة Haifa or Life in Modern Palestine”، ورجل الدين وليم هشلر William Hischler (1845–1931) صديق ثيودور هرتزل Theodor Herzl (1860–1904)، ومؤلف كتاب “إرجاء اليهود إلى فلسطين حسبما ورد في أسفار الأنبياء The Restoration of Jews to Palestine According to the Prephets” سنة 1884[10].

وأنشئ “صندوق استكشاف فلسطين Palestine Exploration Fund” سنة 1865 برعاية الملكة فيكتوريا ورئيس أساقفة كنتربري لدراسة آثار وتاريخ وجغرافية وجيولوجيا ومناخ فلسطين، وقام سلاح الهندسة الملكي بذلك. وأصدر الصندوق سنة 1892 كتاب “المدينة والأرض The City and the Land”.

وسعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى منافسة بريطانيا في هذا الميدان، فأنشأت “الجمعية الأمريكية لاستكشاف فلسطين” سنة 1870، على غرار صندوق استكشاف فلسطين البريطاني[11].

وهكذا نرى أن بريطانيا بدأت تهيئ نفسها منذ خروج قوات محمد علي باشا من فلسطين لتصبح الحامية الوحيدة لليهود في فلسطين وفي بقية ولايات الدولة العثمانية، وتسعى إلى تشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين تمهيداً لقيام كيان سياسي لهم فيها.

وتزامن هذا المسعى البريطاني مع بداية اهتمام اليهود أنفسهم بفكرة استعمار فلسطين في عقد الثلاثينيات من القرن الـ 19. وكان من أوائل أثرياء اليهود الذين أسهموا في استعمار فلسطين مويس مونتفيوري Moys Montefiori (1784–1885) الذي قابل محمد علي باشا سنة 1839 ووعده الأخير باستئجار نحو مئتي قرية في منطقة الجليل شمال فلسطين لمدة خمسين عاماً معفاة من الضرائب، والسماح بإرسال خبراء لتدريب اليهود على أعمال الزراعة والصناعة[12].

وظهر عدد من المفكرين اليهود يدعون إلى تهجير اليهود إلى فلسطين كحلٍّ لعداء الدول والشعوب الأوروبية للأقليات اليهودية التي تعيش بينهم. ومن أبرز هؤلاء المفكرين يهودا القلعي Yehuda AlKalai (1798–1878)، مؤلف كتاب “اسمعي يا إسرائيل” سنة 1834، وتسفي كاليشر Zvi Kalischer (1795–1874)، مؤلف كتاب “البحث عن صهيون Derishat Zion”، وموزيس هيس Moses Hess (1812–1875)، مؤلف كتاب “بعث إسرائيل The Revival of Israel” سنة 1862 والمعروف بعنوان “روما والقدس Rom und Jerusalem”، وليو بنسكر Leo Pinsker (1821–1891) مؤلف كتاب “التحرر الذاتي Auto- Emancipation” الصادر سنة 1882، وبيرتس سمولنسكين Peretz Smolenskin (1842–1885) الذي أصدر مجلة “هاشاحار Ha-Shahar” بالعبرية ومعناها “الفجر”، وموشيه ليلينبلوم Moshe Lilienblaum (1843–1910) الذي جمع مقالاته التي نشرها بالروسية وترجمها إلى العبرية تحت عنوان “حول بحث اليهود عن أرض أجدادهم”، واليعيزر بن يهودا Eliezer Ben Yehuda (1858–1922) الذي عمل أربعين سنة على إصدار قاموس للعبرية من 17 مجلداً.

وكان آخرهم ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، ومؤلف كتاب “دولة اليهود Der Juden Staat” بالألمانية الصادر سنة 1896، ورئيس المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل Basel السويسرية سنة 1897[13].

وقد اقترحت عدة مشاريع لتهجير اليهود وإقامة دولتهم قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول وقيام المنظمة الصهيونية العالمية سنة 1897 وبعدهما. وأهم هذه المشاريع: مشروع الدولة اليهودية في مدين شمال غرب شبه جزيرة العرب على ساحل البحر الأحمر بطول 400 كم حتى مرفأ الوجه، ومشروع توطين اليهود في الأرجنتين، ومشروع ماكس بودنهايم Max Bodenheim سنة 1891 لتوطين اليهود في منطقة البقاع (لبنان)، ومشروع توطين اليهود في حوران بسورية، ومشروع الاستيطان اليهودي في قبرص سنة 1892 وسنة 1902، ومشروع الاستيطان اليهودي في العريش وسيناء سنة 1902، ومشروع الاستعمار اليهودي لأوغندا سنة 1903، ومشروع الاستيطان اليهودي في موزمبيق وأنجولا سنة 1913، وفي الكونغو البلجيكي، وصحراء مصر الغربية، ومنطقة أضنة في الأناضول، ومشروع الاستيطان اليهودي في ليبيا بين سنتي 1904 و1909، ومشروع الدولة اليهودية في الخليج العربي سنة 1917[14].

أدرك قادة الحركة الصهيونية أن ليس بإمكانهم تحقيق مشروعهم الاستعماري إلا بتبنيه من قبل دولة كبرى قوية تحميه وتسهل عملية تحقيقه. ولذا اتجهت أنظار هرتزل إلى ألمانيا، وحاول إقناع المستشار الألماني بيرنهارد فون بيلوف Bernhard von Buelow بتبني المشروع الصهيوني في فلسطين. وتمكن هرتزل من مقابلة القيصر الألماني فيلهلم الثاني Wilhelm II في فيينا، التي قَدِمَ إليها بمناسبة المشاركة في جنازة القيصرة النمساوية. تمت المقابلة في 16/9/1897، وطلب منه وساطته لإقناع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بضرورة التفاوض مع المنظمة الصهيونية العالمية لمنح اليهود استقلالاً ذاتياً Autonomie في فلسطين[15].

وقابل هرتزل القيصر الألماني في إسطنبول في 18/10/1898 في أثناء زيارته الرسمية للدولة العثمانية. وحدد هرتزل مطلبه؛ إنشاء شركة قانونية تحت الحماية الألمانية. ووافق القيصر على مقابلة الوفد الصهيوني برئاسة هرتزل في فلسطين. وفي أثناء لقاء القيصر بالسلطان العثماني تحدث القيصر بشيء من الحماسة عن أماني اليهود في فلسطين، ولكنه فوجئ بفتور شديد من جانب السلطان الذي سار بالحديث نحو موضوعات أخرى، وبذلك وجد القيصر صعوبة في الحديث مرة أخرى عن هذا الموضوع[16]. والتقى هرتزل بالقيصر الألماني على أبواب مستعمرة مكفة إسرائيل Mikweh Israel في 29/10/1898، حيث اصطف مع كبار الحاخامين وتلامذة المدارس العبرية الذين أنشدوا للقيصر ترحيباً باللغة الألمانية. وتوقف القيصر معه لعدة دقائق. وتمّ استقبال القيصر للوفد الصهيوني في خيمته في القدس في 2/11/1898، وألقى هرتزل خطاباً. ولم يسفر هذا اللقاء عن أي وعد من القيصر الألماني بدعم المشروع الصهيوني[17].

بعد فشل مساعي هرتزل في ألمانيا اتجه نحو بريطانيا. وعقد المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن سنة 1900. وأثار هذا المؤتمر اهتمام بعض الدوائر البريطانية بالصهيونية. ولم تأتِ مساعي هرتزل بالنتائج المرجوة، فكتب في يومياته في 9/11/1901: “لا ألمانيا ولا إنكلترا ستعمل شيئاً من أجلنا. ولذلك فإن أي تدخل هو أمر لا لزوم له”[18].

ومن الجدير بالذكر أن قيادة المنظمة الصهيونية العالمية قد انتقلت إلى أيدي الصهاينة الألمان منذ موت هرتزل سنة 1904 حتى سنة 1920. واتسمت علاقات السفير الألماني في إسطنبول البارون أدولف هيرمان فون مارشال بيبرشتاين Adolf Hermann von Marschall Bieberstein الذي تولى هذا المنصب بين سنتي 1897 و1911 بالعداء للحركة الصهيونية. ولذلك استقبل الصهاينة نقله من مركزه بارتياح شديد. ولما جاء خلفه فانغنهايم Wangenheim سنة 1914 سارع المندوب الصهيوني في إسطنبول ريتشارد ليشتهايم Richard Lichtheim إلى اللقاء به في 15/6/1914، وسعى إلى إقامة صلات وثيقة به. وبعد أسبوعين من هذا اللقاء تباحث ليشتهايم مع السفير الجديد في أمر التدخل لدى السلطات العثمانية من أجل السماح لمئتين من المهاجرين اليهود الروس بدخول فلسطين، وكان هؤلاء قد أوقفتهم السلطات العثمانية في ميناء يافا، ورفضت السماح لهم بالنزول من الباخرة. استجاب فانغنهايم لطلب المندوب الصهيوني وأمر القنصلية الألمانية العامة في القدس بالتدخل لدى السلطات العثمانية للسماح للمهاجرين اليهود بالنزول في يافا. وكانت هذه الحادثة الحالة الأولى التي يتدخل فيها سفير ألماني لدى السلطات العثمانية بشأن مواطنين يحملون الجنسية الروسية.

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ألغت الدولة العثمانية نظام الامتيازات Capitulations في 9/9/1914. وكان الصهاينة يطلبون من المهاجرين اليهود إلى فلسطين طلب التجنس بالجنسية العثمانية لتسهيل إقامتهم في البلاد. وكان طلعت بك، وزير الداخلية العثماني من أنصار هذا الحل[19].

اتخذت اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية مقرها العام في برلين طوال مدة الحرب العالمية الثانية وتولى رئاستها يهودي ألماني هو أوتو فاربورغ Otto Warburg، وأنشأت لها مكتباً في إسطنبول تولى رئاسته ديفيد جاكبسون David Jacobson، ومكتباً في لندن برئاسة ناحوم سوكولوف Nahum Sokolow، أول الأمر ثم حلّ محله حاييم وايزمن Chaim Weizman، ومكتباً في نيويورك برئاسة القاضي لويس برنديز Louis Brandies، ومكتباً في كوبنهاغن باعتبارها عاصمة لدولة محايدة لتسهيل الاتصال بالممثلين الدبلوماسيين للدول المحاربة. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1914 أعلنت اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية في اجتماع عقدته في كوبنهاغن أنها تقف موقف الحياد من النزاع الدولي القائم. وكان هذا الإعلان مجرد مناورة سياسية ترمي إلى إشعار الأطراف المتنازعة بأنها لن تلتزم إلا بمن سيقدم لها ما تطلب من وعود وعهود.

دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب دولتي الوسط ألمانيا والنمسا – هنغاريا في 4/11/1914. وأصدر أحمد جمال باشا الوالي العثماني على بلاد الشام أمراً في 7/12/1914 نصّ على وجوب مغادرة اليهود الذين يحملون جنسية أجنبية على البواخر المغادرة للموانئ الفلسطينية، وبدأت السلطات المحلية بتنفيذ هذا الأمر، واعتقلت العديد من زعماء الصهاينة، وأغلقت بنك فلسطين الإنجليزي The Anglo-Palestine Bank.

ولما بلغت أنباء هذه التدابير المندوب الصهيوني في إسطنبول اتصل بالسفير الألماني فانغنهايم الذي استجاب له. فقابل الصدر الأعظم أنور باشا ووزير الداخلية طلعت بك. وتمّ الاتفاق على إيقاف تهجير اليهود الروس من فلسطين. وصدرت الأوامر بذلك إلى جمال باشا، فانصاع لها، وعزل سكرتيره بهاء الدين بك من منصبه، وأوقف إجراءات التهجير، وأفرج عن الزعماء الصهاينة المعتقلين، وأعاد فتح بنك فلسطين الإنجليزي. وأصدر بياناً وزع على أهل فلسطين أعلن فيه ثقته بالمواطنين اليهود، وحذر من الشائعات القائلة بعدم ولائهم. واستقبل على أثر ذلك في تل أبيب في 2/3/1915 بمناسبة احتفال رسمي أقيم في مدرسة هرتسليا الثانوية، وألقى خطاباً في هذه المناسبة قال فيه: “لي الثقة التامة بكم. وأنا متأكد أننا سنتمكن من التعاون من أجل بناء وطننا المشترك. ضعوا ثقتكم بنا وسوف تقدم البلاد التي ترتبطون بها الحماية لكم. نحن نعتبركم عنصراً طيباً ومخلصاً”.

وتزلفاً منه لليهود سمح جمال باشا للعمال اليهود في الجيش العثماني بالراحة يوم السبت، كما فتح أبواب مستشفيات الجيش العثماني لمعالجة الفقراء من اليهود، وأباح لهم شراء المواد الغذائية من مخازن الجيش بأسعار مخفضة. وبلغ تزلفه منهم أوجه بتعيين ألبرت عنتيبي Albert Antibi اليهودي الشرقي الذي كان يتقن اللغات العربية والتركية والفرنسية عضواً في اللجنة الاستشارية السياسية والاقتصادية لولاية سورية، ومستشاراً خاصاً له. كما عين موشيه ويلبوشفتز Moshe Wilbuschwitz رئيساً للمهندسين المدنيين ومديراً لدائرة التنمية في ولاية سورية[20].

وفي ألمانيا نفسها، أحدثت وزارة الخارجية دائرة خاصة باليهود سمتها “دائرة الشؤون اليهودية Abteilung fuer Judische Frage”، وعمل فيها ناحوم غولدمان Nahum Goldmann، الزعيم الصهيوني المعروف، في قسم الدعاية التابع لهذه الدائرة. ووضعت السفارة الألمانية في إسطنبول حقيبتها الديبلوماسية تحت تصرف الصهاينة لتأمين سرية الاتصال بين مندوبيها في إسطنبول وبرلين ويافا والقدس. كان هدف الحكومة الألمانية من هذا التعاون أن يمارس يهود الولايات نفوذهم على الحكومة الأمريكية ليضمنوا حيادها في الصراع الدولي القائم. واشتد اهتمام الحكومة الألمانية بالحركة الصهيونية في نهاية سنة 1915، بعد أن خابت آمال الألمان في إحراز نصر حاسم سريع على الجبهة الغربية. وفي 22/11/1915 أصدرت السفارة الألمانية في إسطنبول تعليماتها إلى القناصل الألمان في فلسطين وسورية لحماية المستعمرات اليهودية والعطف على “المطالب الحقة لليهود للمدى الذي لا يتعارض والمصالح الوطنية للأتراك”. وعلى الرغم من هذه الإجراءات فقد كتب المندوب الصهيوني في إسطنبول إلى الزعيم الصهيوني شتراوس Strauss في 6/7/1915: “لن تضحي ألمانيا بتحالفها مع تركيا من أجلنا. فالصهيونية لا تحتل مقام الأولوية لديها.. وبوجه عام يمكن أن نعرب عن ارتياحنا لما فعلته السفارة الألمانية من أجلنا”[21].

في اجتماع المجلس العام الصهيوني الذي عقد في لاهاي في 24/3/1916، عرض الزعيم الصهيوني جاكبسون، لأول مرة، موضوع إصدار تصريح من الحكومتين الألمانية والعثمانية يتضمن تعاطفهما مع الأماني الصهيونية في فلسطين، غير أن المجلس رأى هذا الاقتراح سابقاً لأوانه. والواقع أن القيادة الصهيونية شعرت، بعد العرض الذي تقدمت به دولتا الوسط في 12/1/1916 لإبرام الصلح مع الحلفاء، أن الوقت قد حان لاستصدار تصريح من الحكومة الألمانية يؤيد الأطماع الصهيونية في فلسطين.

ولما تشكلت حكومة عثمانية جديدة برئاسة طلعت باشا في سنة 1917، سارعت اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية إلى الاتصال بوزارة الخارجية الألمانية تطلب منها بذل المساعي لدى الحكومة الجديدة للحصول على بيان مؤيد للأماني الصهيونية. ولما حوّل الطلب إلى السفير الألماني في إسطنبول فون كيلمان Von Kuelmann أعرب عن تحفظه عليه. وبعث السفير رسالة إلى المستشار الألماني بيتمان-هولفيغ Bethmann-Hollweg في 26/3/1917، ذكر فيه أن صلة الصهيونية بيهود العالم ضعيفة، وأن دورها في التأثير على موقف الولايات المتحدة لم يعد له أيّ قيمة بعد أن قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا ووقفت في صف الأعداء.

في نيسان/ أبريل 1917، أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا. وبهذه المناسبة اقترح الملحق البحري الألماني في العاصمة العثمانية على الحكومة العثمانية طرد المندوبين الصهاينة لارتباطهم بالمخابرات الأمريكية[22].

هذا عرض موجز للنشاط الصهيوني في ألمانيا والدولة العثمانية قبيل صدور تصريح بلفور. أما النشاط الصهيوني في بريطانيا، فقد تركز بعد إرسال ناحوم سوكولوف Nahum Sokolow العضو البولندي الروسي في قيادة المنظمة الصهيونية من برلين إلى لندن سنة 1912 ليقدم تقريراً عن الوضع في بريطانيا. وعند عودته إلى برلين قدّم تقريراً بيّن فيه أن للصهاينة نفوذاً في الأوساط الدينية البريطانية. ولما جاء سوكولوف إلى لندن في نهاية سنة 1914، رفضت وزارة الخارجية استقباله، مبررة ذلك بأن لديها معلومات كافية عن الصهيونية ولا ترى حاجة للقاء به. والواقع أن عدد اليهود في بريطانيا قد بلغ سنة 1913 نحو 300 ألف نسمة، منهم ثمانية آلاف عضو في الحركة الصهيونية. وكانت قوة الحركة الصهيونية الرئيسية في روسيا والنمسا – هنغاريا. أما أهم مؤسساتها مثل شركة الاستعماري اليهودي The Jewish Colonial Trust وبنك فلسطين الانجليزي The Anglo- Palestine Co. Bank، والصندوق القومي اليهودي The Jewish National Fund فكانت في بريطانيا[23].

أعلنت بريطانيا الحرب على الدولة العثمانية في 5/11/1914، وأعلن رئيس وزرائها هربرت أسكويث Herbert Asquith أن هدف بلاده من الحرب تفكيك الدولة العثمانية. وكان هربرت صموئيل Herbert Samuel أول يهودي صهيوني يدخل الحكومة البريطانية في حكومة أسكويث، وإلى جانبه كان ابن عمه إدوين مونتاغو Edwin Montagu المعارض القوي للصهيونية.

سعى القادة الصهاينة في بريطانيا لدى القيادات السياسية والدبلوماسية والعسكرية البريطانية لكسبها إلى جانبها وتبني المشروع الاستعماري اليهودي في فلسطين، واستعملوا نفوذ العلماء والصحفيين ورجال المال اليهود ومختلف الأساليب لكسبهم. فقد جاء في رسالة لحاييم وايزمن Chaim Weizman في 21/3/1915 إلى هربرت صموئيل: “كنت جيداً بما يكفي لإرشادنا إلى الآن، وأنا متأكد أنك ستستمر في مساعدتنا. ننظر إليك وإلى دورك التاريخي الذي تقوم به والذي سوف تقوم به لإنقاذ إسرائيل”[24].

كان وايزمن أهم القادة الصهاينة المؤثرين في بريطانيا. هاجر إلى إنجلترا سنة 1904. وكان قبل ذلك قد غادر روسيا حيث كان مولده، إلى ألمانيا سنة 1893، وقضى فيها وفي سويسرا 11 عاماً كتلميذ ومعلم للكيمياء. وحصل على الجنسية البريطانية وعُيِّن برتبة قارئ Reader في الكيمياء العضوية سنة 1913 في جامعة مانشستر Manchester. ونال شهرة في الكيمياء الصناعية من خلال الأبحاث التي نشرها في هذا الميدان. ولما بلغ الأربعين من عمره سنة 1914، أصبح معروفاً لدى وزارة حكومة أسكويث. وفي نيسان/ أبريل 1915 تعرف على ديفيد لويد جورج David Lioyd- George وزير وزارة الذخيرة الجديدة، وأصبح مستشاراً فيها في أيلول/ سبتمبر 1915 لتزويدها بمادة الأسيتون Acetone الضرورية لصناعة المتفجرات. كما عُيِّن في الوقت نفسه مستشاراً لوزارة البحرية، مما اضطره إلى مغادرة مانشستر إلى لندن. واعترافاً بجهود وايزمن قال لويد جورج في اجتماع يهودي سنة 1925: “لقد حوّلني الأسيتون إلى الصهيونية”.

أقام وايزمان علاقات وثيقة مع لويد جورج وهربرت صموئيل وجيمس دو روتشيلد James de Rothschild الصيرفي اليهودي البريطاني وعضو مجلس اللوردات، وس. ب. سكوت S. B. Scott رئيس تحرير صحيفة الجارديان The Guardian، وآرثر بلفور Arthur Balfour وزير البحرية في حكومة أسكويث، وكسبهم لمساندة الحركة الصهيونية وتبني مشروعها الاستعماري في فلسطين[25].

استقالت حكومة أسكويث وتشكلت حكومة جديدة برئاسة ديفيد لويد-جورج في 5/12/1916، وعين آرثر بلفور وزيراً للخارجية. قال بلفور لهارولد نيكلسون Harold Nicolson، من كبار موظفي وزارته: “اليهود أكثر أجناس البشرية موهبة، منذ اليونان في القرن الخامس. فقد نفوا وتشردوا واضطهدوا.. إذا استطعنا إيجاد ملاذ لهم ووطن آمن في بلادهم، عندها ستتفتح عبقريتهم وتزهر وتنتشر. سيجد يهود الغيتوات في أوروبا الشرقية المضطهدون حياة جديدة في فلسطين، وسيطورون لهم هوية جديدة وقوية. وسيجعل اليهودي المتعلم القادم من جميع أنحاء العالم من جامعة القدس مركزاً للحياة الثقافية ورعاية مشعة للعلوم والفنون”[26].

بعد إبرام اتفاق سايكس-بيكو في 16/5/1916، بذل مارك سايكس Mark Sykes جهداً، باعتباره كاثوليكياً مخلصاً لكنيسته، في ربيع سنة 1917، لإقناع البابا والسلطات البابوية للتعاطف مع الحركة الصهيونية. ومن روما سافر سايكس إلى فلسطين لإقناع المسؤولين في رهبنة الفرنسيسكان وبطريرك اللاتين في القدس بالتعاون مع الحركة الصهيونية.

كان أمام بلفور في 13/6/1917 مذكرة من إعداد أحد مستشاريه يقترح فيها أنه حان الوقت لتلبية أماني الصهاينة، وتقديم تأكيد لهم بأن حكومة جلالته في تعاطف عام مع أمانيهم. غادر وايزمن لندن إلى جبل طارق في مهمة في نهاية حزيران/ يونيو 1917، ولم يعد إلى لندن إلا في 22/7/1917. وفي أثناء غيابه تعذر إعداد صيغة صهيونية لتصريح الحكومة البريطانية بشأن الأماني الصهيونية ليقدم إلى بلفور. وكان وايزمن قد اتفق مع لورد روتشيلد، قبل مغادرته لندن، أن تبدأ الخطوة الأولى من قبل وايزمن وروتشيلد، بحيث يقترح روتشيلد الصيغة أو الصيغ التي تقدم إليه لبيان رأيه فيها. ثم ترسل هذه الصيغة إلى بلفور الذي سيعرضها بدوره على مجلس الحرب البريطاني للموافقة عليها، وإعادة الصيغة الموافق عليها من مجلس الحرب إلى بلفور الذي سيرسلها في رسالة موجهة إلى لورد روتشيلد.

تلقى بلفور الصيغة التي أقرها روتشيلد في 18/7/1917 وهي:

عزيزي السيد بلفور،

وأخيراً أستطيع أن أرسل إليك الصيغة التي طلبتها مني. إذا كانت حكومة جلالتك سترسل إليّ رسالة وفق خطوط هذه الصيغة، وإذا كانت كذلك وأنت توافق عليها، سأرسلها إلى الاتحاد الصهيوني لإعلانها في اجتماع يعقد لهذه الغاية. آسف أن أقول إن خصومنا بدأوا حملتهم بمناورة كثيفة جداً، أي بإثارة التشويش، وعداء اليهود البريطانيين ضدّ اليهود الأجانب. لقد بدأوا ذلك في يوم الأحد الفائت حينما تحدوا في مجلس النواب الذين انتخبوا حديثاً، إن كانوا جميعاً من مواليد بريطانيا (وأنا منهم).

المخلص روتشيلد[27]

وكانت مسودة التصريح كالتالي:

  1. تقبل حكومة جلالته المبدأ بوجوب جعل فلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي.
  2. سوف تبذل حكومة جلالته أقصى جهودها لضمان تحقيق هذا الهدف، وسوف تبحث في الأساليب والطرق الضرورية لتحقيق ذلك مع المنظمة الصهيونية.

مرت ثلاثة أشهر على النظر في هذه المسودة التي عدلت بصورة جذرية في تصريح بلفور.

وعلى أي حال، عممت رسالة روتشيلد ومسودة التصريح المرفق بها على الوزراء المعنيين في بداية آب/ أغسطس، ونظر مجلس الحرب البريطاني فيها في 3/9/1917، وأقر مجلس الحرب البريطاني صيغة تصريح بلفور في اجتماعه في 31/10/1917. وفوّض بلفور بإبلاغة إلى روتشيلد. في 2/11/1917، وجّه بلفور الرسالة التالية إلى اللورد روتشيلد:

عزيزي لورد روتشيلد،

يسرني جداً أن أنقل إليكم، نيابة عن حكومة جلالته التصريح الثاني في التعاطف مع الأماني اليهودية الصهيونية التي قدمت إلى مجلس الحرب وأقرها.

تنظر حكومة جلالته بعين العطف على إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وبذل خير مساعيها لتحقيقه، شريطة أن يكون مفهوماً عدم إلحاق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهودي في البلدان الأخرى وبمركزهم السياسي فيها.

وأكون ممتناً بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني[28].

نشر تصريح بلفور هذا في الصحف البريطانية في 9/11/1917. واحتفل الصهاينة اليهود والبريطانيون من أنصارهم في دار الأوبرا بلندن في 2/12/1917. وجلس على المنصة الوزير السابق هربرت صموئيل ومساعد وزير الخارجية البريطانية روبرت سيسل Robert Cecil ومساعد وزير الحرب السير مارك سايكس، واللورد جيمس روتشيلد، وحاييم وايزمن وناحوم سوكولوف. شكر روتشيلد الحكومة البريطانية وقال: “نلتقي في أهم مناسبة في تاريخ اليهودية في السنوات الألف وثماني مئة الأخيرة. نحن هنا لنشكر حكومة جلالة الملك على التصريح الذي يؤشر إلى مرحلة جديدة وعهد جديد. فلأول مرة منذ الشتات تلقى الشعب اليهودي استعادة مكانته الخاصة به بتصريح من إحدى الدول الكبرى”. وتحدث بقية القادة الصهاينة وأنصارهم في هذا الاحتفال، وتبادلوا التهاني[29].

لقد أسهمت في إصدار هذا التصريح المنظمة الصهيونية العالمية بمختلف فروعها ومكاتبها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وقد بيّن المؤرخ البريطاني جوناثان شنير Jonathan Schneer في كتابه “تصريح بلفور The Balfour Declaration”، بالتفاصيل الدقيقة، الجهود التي بذلها الصهاينة لدى الوزراء ورئيس الوزراء البريطانيين منذ سنة 1904 وحتى صدور تصريح بلفور. كما أوضح دور الولايات المتحدة الأمريكية في الضغط على الحكومة البريطانية لإصدار التصريح، ودور السفير الأمريكي في إسطنبول هنري مورغنتاو Henry Morgenthau بين سنتي 1913 وشباط/ فبراير 1916، في حماية اليهود في الدولة العثمانية، ويهود فلسطين خاصة، من خلال برنامج الإغاثة والتعاطف مع الحركة الصهيونية[30].

فقد كان في الولايات المتحدة نحو ثلاثة ملايين يهودي سنة 1914، انضم منهم نحو 12 عضواً إلى الحركة الصهيونية. ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى، تشكلت منظمة صهيونية جديدة في الولايات المتحدة هي اللجنة اليهودية الأمريكية American Jewish Committee برئاسة القاضي اليهودي لويس برانديز Louis Brandeis، التي أصبحت قوة مؤثرة في حياة اليهود الأمريكيين. وعقد اتحاد الصهاينة الأمريكيين American Zionist Federation مؤتمراً استثنائياً في نيويورك في 30/8/1914، وأسفر عن تشكيل هيئة خاصة باسم The Provisional Executive Committee for General Zionist Affairs برئاسة برانديز. وكان للرئيس الأمريكي ودرو ويلسون Woodrow Wilson ثقة عالية وتقدير كبير لبرانديز. وقام كل من الدكتور جودا ماغنيس Judah Magnes وشماريا ليفين Shmarya Levin اليهوديان الأمريكيان بدور مهم في الولايات المتحدة الأمريكية لصالح المشروع الصهيوني[31].

أما في فرنسا، فقد رأت حكومتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 أن الوقت قد حان للتفاوض مع بريطانيا حول مصير المشرق العربي بعد الحرب، وعيّنت قنصلها السابق في بيروت فرنسوا جورج بيكو François Georges Picot لتمثيلها في المحادثات بين الحكومتين. واختارت الحكومة البريطانية السير مارك سايكس Sir Mark Sykes لهذه الغاية. بعد محادثات طويلة اتفق الاثنان على ما يعرف باتفاقية سايكس-بيكو في 16/5/1916 التي أعادت رسم خريطة المشرق العربي. ونصت الاتفاقية على جعل فلسطين بما فيها من أماكن مقدسة يهودية ومسيحية وإسلامية تحت إدارة دولية[32]. أسهم مارك سايكس في إقناع المسؤولين الفرنسيين بالموافقة على تصريح بلفور. وفي 14/2/1918 وجّه وزير خارجية فرنسا ستيفان بيشون Stéphane Pichon رسالة إلى سوكولوف مندوب المنظمة الصهيونية العالمية في باريس، جاء فيها: “إن التفاهم تام بين الحكومتين الفرنسية والإنكليزية في ما يتعلق بمسألة استيطان اليهود في فلسطين”.

واقترح الفرنسيون على سوكولوف الاتصال بالحكومة الإيطالية لأخذ موافقتها على تصريح بلفور. وقام مارك سايكس بتسهيل اتصال القيادة الصهيونية بالحكومة الإيطالية والبابا، كما فعل في باريس. وزار روما وأجرى محادثات مع كبار المسؤولين الإيطاليين ومع الفاتيكان. والتقى بالبابا بندكت الخامس عشر Benedict XV، ومهّد للقاء سوكولوف به. وتمت مقابلة الأخير بالبابا، وكتب إلى وايزمن يقول: “لم أكن أحلم باستقبال البابا لي”. وقد حبّذ البابا عودة اليهود إلى فلسطين[33].

وفي الولايات المتحدة الأمريكية أعرب الرئيس ودرو ويلسون، الذي تعرض بدوره لضغوط من الأقلية اليهودية ذات النفوذ الواسع، للحاخام ستيفن وايز Stephen Wise، أحد قادة الحركة الصهيونية في أمريكا، في 13/8/1918، عن ارتياحه للتقدم الذي حققته الحركة الصهيونية وتأييده لتصريح بلفور.

وفي ألمانيا، بذل قادة المنظمة الصهيونية جهوداً كبيرة في سبيل الحصول على تصريح مماثل لتصريح بلفور من وزارة الخارجية الألمانية. واستطاعوا الحصول على هذا التصريح في 2/1/1918 الذي أيد التصريح الذي أدلى به طلعت باشا، الصدر الأعظم العثماني في اليوم نفسه، والذي يعد “بتطوير استقرار يهودي مزدهر في فلسطين، عن طريق الهجرة غير المقيدة والاستيطان ضمن طاقة البلاد الاستيعابية، وقيام حكم ذاتي يتفق وقوانين البلاد والتطور الحر لحضارتها”[34].

وهكذا استطاع قادة الحركة الصهيونية الحصول على موافقة الدول الكبرى في العالم على إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين بعد الحرب، قبل نهايتها، ومن جميع الأطراف المتحاربة.

ولم يبقَ أمامهم سوى العرب وسكان فلسطين منهم.

كان الشريف حسين، قائد الثورة العربية الكبرى وأنجاله الأربعة، ومن معهم من القادة العرب المدنيين والعسكريين، يجهلون جهلاً تاماً ما كان يجري في العواصم الأوروبية من اتصالات مع قيادة الحركة الصهيونية لتأمين هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى فلسطين وإقامة دولتهم فيها. كما كانت معرفتهم بالحركة الصهيونية ونفوذها ونشاطها على الصعيد الدولي ضعيفة جداً، إن لم تكن معدومة، وكذلك كانت حال السياسيين والمثقفين العرب من سكان بلاد الشام المقيمين في مصر، والذين كانوا على اتصال بدار المندوب السامي البريطاني وبالمكتب العربي في القاهرة الذي كان يدير الاستخبارات البريطانية العسكرية في منطقة الشرق الأوسط. وبطبيعة الحال كان أعيان فلسطين ونوابها في مجلس المبعوثان العثماني يجهلون النشاط الصهيوني خارج فلسطين.

وفي فلسطين نفسها بدأت الهجرة اليهودية الكثيفة إليها من روسيا وأوروبا الشرقية سنة 1882. وأنشأ اليهود منذئذ وحتى سنة 1914، 26 مستعمرة، امتلكت 130 ألف فدان (526.1 كم2)، كان 90 ألف فدان (364.22 كم2) منها قد استغل في الزراعة. وأنشئت مزارع الكيبوتز والموشاف فيما بعد على غرار ما كان يجري في روسيا البلشفية. ولم يتجاوز عدد اليهود مع بدء الحرب العالمية الأولى في فلسطين 85 ألف نسمة، كان يعيش 12 ألفاً منهم في المستعمرات الزراعية والبقية في مدن فلسطين الكبرى[35].

شعر أهالي فلسطين بخطورة الهجرة اليهودية إلى بلادهم في مرحلة مبكرة. فقد بعث أهالي القدس سنة 1891 برقيات إلى الصدر الأعظم العثماني يطالبون فيها منع هجرة اليهود إلى البلاد. وكان شكري العسلي قائم مقام الناصرة من أوائل المسؤولين العرب الذين أدركوا خطر الصهيونية ومشروعها الاستعماري في فلسطين. فقد بعث برسالة إلى سامي باشا الفاروقي، قائد الحملة العسكرية لتأديب حوران والكرك سنة 1910، جاء فيها: “إن الجمعية الصهيونية ورفيقاتها جمعيات البيكا[36]، وفاغولين والأليانس وغيرها تسعى إلى استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من الكتاب المقدس، والآن عملاً بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة، ويشترطون البيع على أن يكون الثمن فضة، ويكتبون الصكوك ويشهدون”[37].

ولما أصبح العسلي نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان في مطلع سنة 1911 أثار المسألة الصهيونية في المجلس المذكور ونبّه أعضاء المجلس إلى الخطر الصهيوني. وألّف العسلي قوة ضغط منه ومن روحي الخالدي نائب القدس ورياض الصلح نائب بيروت، للضغط على حكومة الاتحاد والترقي من أجل سنّ قوانين لوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين والاستيطان فيها. وأسهم نائب القدس وغزة حافظ السعيد في مناقشات مجلس المبعوثان حول أخطار الصهيونية. وكانت استجابة النواب الأتراك ضعيفة لما طالب به النواب العرب. وكتب العسلي في صحيفة المقتبس الدمشقية في 25/6/1911 “العرب والسوريون في غضب على أولئك الذين يسهلون لليهود والصهيونيين الساعين في احتلال فلسطين وسورية والعراق ليؤسسوا حكومة يهودية”. واستمر العسلي والنواب العرب في الكشف عن النوايا الحقيقية للحركة الصهيونية في البرلمان العثماني[38].

وأدرك عرب فلسطين خطورة الهجرة اليهودية إلى بلادهم منذ أن اتخذت شكلاً منظماً في العقدين الأخيرين من القرن الـ 19. وحدث أول صدام بين الفلاحين العرب وسكان المستعمرات الصهيونية في مطلع الثمانينيات من القرن المذكور. وقاد طاهر الحسيني، مفتي القدس، المقاومة الفلسطينية لهجرة اليهود الكثيفة إلى القدس، معتبراً ذلك تحدياً يهدف إلى تهويد المدينة وإزالة قداستها الإسلامية. وكان مفتو القدس السابقون من آل الحسيني قد اعترضوا على محاولات حماية اليهود وتشجيعهم على الإقامة في القدس من قبل القنصل البريطاني جيمس فين James Finn فيها، في عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الـ 19[39].

ولعل أول من أشار إلى أطماع الصهيونية في فلسطين الرهبان الكاثوليك الذين كانوا يتابعون باهتمام وقلق النشاط الصهيوني. فقد نشر الأب هنري لامنس اليسوعي مقالة في مجلة المشرق سنة 1899 بعنوان “اليهود في فلسطين ومستعمراتهم” عرض فيها المستعمرات اليهودية ونشأتها والجمعيات والأفراد الذين يدعمونها مالياً، وحذّر في ختام مقالته من الأطماع اليهودية في شرقي الأردن. وقال: “هذا ولم يزل اليهود يطمحون ببصرهم نحو عبر الأردن. ولما اجتزنا منذ ثلاث سنين في تلك الأقطار، أخبرنا مختار مكيس (أم قيس) أن للبارون دو روتشيلد عمالاً في تلك النواحي يطوفونها في كل جهاتها ليمتلكوا أراضي يجعل فيها اليهود ليفلحوا ويستغلوا غلاتها”[40].

وكانت أول الصحف العربية في فلسطين التي نبّهت إلى الخطر الصهيوني صحيفة “الكرمل” منذ صدورها سنة 1908، وتلتها صحيفة “فلسطين”. ودعت الكرمل إلى إنشاء “جمعية وطنية فلسطينية” تضم أعيان نابلس، والقدس، ويافا، وحيفا، وغزة، لشراء أراضي الدولة (الأراضي المدورة) قبل أن يستولي عليها الصهاينة. ومنذئذ أصبحت هذه القضية شغل الصحافة الوطنية الشاغل قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وعبّر إسعاف النشاشيبي عن قلق عرب فلسطين إزاء الخطر الصهيوني بقصيدة نشرت في مجلة “النفائس العصرية” في تشرين الأول/ أكتوبر 1910، نقتطف منها ما يلي:

يا فتاة الحي جودي بالدماء        فلقد ولت فلسطين ولم       نكبت أقدامها سبل الهدى     ســــــــوف تشــــكيـــــن وتــبـــــــكــيـــن دمــــــاًإن الاستعمار قد جاز المدى   إنها أوطانكم فاستيقظوا      فاعلموا يا قوم إن لم تعلموا   اذكـــــــــــــروا إن غــــــــــــرّكـــم مـــــــــالـــــهـــــــم بـــــدل الدمــــــــــع إذا رمــــــــت الــــبــكـــــاءيبق يا أخت العلى غير دماء فـــــشـــــرتــــهــــــــا لــلــــعــــدى شــــــرّ شــــــراء

يـــــــــوم لا يـــجـــدي ولا يــغــنــي الـبـكاء

دون أن يـــعـــدوه عــــن ســيــــر عــــداء

لا تـــــبــــيــــعــــوهــــا لـــــــقــــــــــوم دخـــــــــلاء

أن عــــــقــــبــــاكـــــــم هــــــلاك وفــــنـــــــــــــاء

عـــــــــزة الأنــــفـــــــس دومــــــــاً والإبـــــــــاء

وكان للصحافة الوطنية دور مهم في حثّ السلطات العثمانية على وضع العراقيل في طريق الهجرة اليهودية، وفي اتخاذ التدابير الإدارية في هذا الاتجاه، حتى إن الحركة الصهيونية اضطرت إلى إصدار صحيفة باللغة العربية، هي “صوت العثمانية” التي صدرت باسم الدكتور شمعون مويال في يافا في مطلع سنة 1914، من أجل الرد على الصحف العربية وتهدئة خواطر العرب[41].

وقام عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية في برلين ناحوم سوكولوف في نيسان/ أبريل بزيارة سورية وفلسطين لتهدئة مخاوف العرب. ودامت زيارته ثلاثة أشهر، التقى خلالها عدداً من زعماء الحركة القومية العربية، ومنهم شكري العسلي ومحمد كرد علي وعبد الوهاب الإنجليزي وجورج فاخوري، وسهّل له مهمته نظيف بك الخالدي، أحد أعيان القدس. واتفق هؤلاء مع سوكولوف على عقد مؤتمر عربي – صهيوني تمهيدي في 2/7/1914 في برمانا بلبنان بمشاركة عشرة مندوبين من كل طرف. غير أن والي بيروت العثماني لم يوافق على عقد المؤتمر المذكور. وانقطعت الاتصالات بين هؤلاء المثقفين العرب والصهاينة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى[42].

وبعد صدور تصريح بلفور، تكوّنت في وزارة الحربية البريطانية “لجنة الشرق الأوسط” لمعالجة شؤون فلسطين. وقررت في اجتماعها الذي عقد في 19/12/1917، إرسال بعثة صهيونية إلى فلسطين برئاسة حاييم وايزمن وممثل عن الحركة الصهيونية في فرنسا، وممثل عن الحركة الصهيونية في إيطاليا، والميجور أورمسبي غور Major Ormsby Gore، من أجل تقديم مقترحات لأي خطوات يتطلبها التنفيذ العملي لتصريح بلفور. وصلت البعثة إلى يافا ومنها انتقلت إلى القدس، فاستقبلها الكولونيل رونالد ستورز Col. Ronald Storrs. والتقت البعثة بمفتي القدس، وبأعيانها العرب في حزيران/ يونيو 1918[43]. ولا نعرف ما دار من حديث في هذه اللقاءات، سوى ما ذكره وايزمن.

هذا ولما احتلت القوات البريطانية فلسطين في نهاية سنة 1917 ومطلع سنة 1918، أبدى المثقفون والسياسيون السوريون المقيمون في مصر قلقهم وخشيتهم من أن يستغل الصهاينة ظروف الحرب القاسية لشراء مساحات واسعة من أراضي فلسطين وطرد سكانها منها. وأشار تقرير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة في 20/4/1918 إلى أن الضباط العسكريين البريطانيين في مصر وفي فلسطين حاولوا التقليل من هذه المخاوف دون جدوى. وكان الجنرال كلايتون General Gilbert Clayton، مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة، قد كتب إلى وزارة الخارجية البريطانية في 20/12/1917 “أن العرب ما زالوا قلقين ويشعرون أن الحركة الصهيونية تتقدم بسرعة، مما يهدد مصالحهم”. وجاء في تقريره الذي بعث به إلى الوزارة نفسها في 14/1/1918: “على الرغم من أن مهمة إعادة الحياة الطبيعية في فلسطين والإغاثة العامة، بعد طرد الأتراك، ما زالا يحولان دون حصول أي اهتمام كبير بالشؤون السياسية، إلا أن السكان المحليين من العرب ما زالوا يظهرون بعض التوتر ضدّ النشاط الصهيوني، ويخشون أن تكون النتيجة قيام حكومة يهودية في فلسطين”[44].

كانت ردة الفعل الفلسطينية على تصريح بلفور ضعيفة. ولذلك أسباب أوردها الأديب والمفكر المقدسي خليل السكاكيني في مقال له بعنوان “ماذا فهم العرب من وعد بلفور”، نشرته صحيفة “السياسة” المصرية في 1/6/1923، وجاء فيه:

إن العرب كانوا من الضعف والإعياء لا يستطيعون معهما أن يهتموا بشيء، وأنهم قدروا أن الوعد قد صدر لضرورات حربية اقتضتها أوضاع الحرب العالمية الأولى، فإذا زالت تلك الضرورات سقط الوعد من تلقاء نفسه، وأنهم كانوا يعرفون بوعود بريطانيا للعرب والتي سبقت وعد بلفور، كما توهموا أن الأمة البريطانية أعلى من أن ترضى بمثل هذه الخيانة لقضية العرب. ولذا فلا بدّ أن تنكر على حكومتها هذه السياسة الخرقاء. واعتقد العرب بقدرتهم على إبطال وعد بلفور متى تنفسوا الصعداء ووقفوا على أقدامهم بعد انتهاء الحرب. كما ذهب بعضهم إلى الظن أن اليهود أعجز من أن ينالوا فلسطين ما دامت الأمة العربية حية واعية، كما تصوروا أن الوعد أقرب إلى الخيال والحلم منه إلى الحقيقة، وأن اليهود متى ثابوا إلى رشدهم وأدركوا المصاعب والمتاعب التي ستواجههم في فلسطين وفي غيرها من أقطار الدنيا تراجعوا وتخلوا عنه. وقدر العرب أيضاً أن فلسطين لن تتسع لليهود، وأن الوطن القومي لا يشترى بالمال ولا ينال بالدسائس والدعاية والمؤامرات السياسية[45].

وما إن شعر العرب بالنشاط اليهودي المنظم في فترة الاحتلال العسكري البريطاني (1917–1920) وممالأة الإنجليز لليهود، حتى أسرعوا إلى إنشاء الجمعيات الإسلامية – المسيحية في مدن فلسطين الكبرى في سنتي 1918 و1919، بهدف مقاومة قيام الوطن القومي اليهودي. وكانت هذه الجمعيات حجر الأساس الذي قامت عليه الحركة الوطنية الفلسطينية التي اتخذت شكلها المنظم بانعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس في 27/1/1919[46]. وكان من أسباب عقد هذا المؤتمر النظر في نتائج تصريح بلفور على فلسطين. وكان أول قرار اتخذه المؤتمرون، إرسال برقية إلى مؤتمر الصلح في باريس للاحتجاج على “ما سمعوه من جعل بلادهم وطناً قومياً لليهود، ومنحهم حقّ الهجرة والاستعمار، وأنهم سيرفعون إلى المؤتمر تقاريرهم المؤيدة بالبراهين والمثبتة حقّ أقلية اليهود القليلة جداً مالاً ونفوساً وأملاكاً”.

واحتوت المذكرة الأولى التي بعث بها المؤتمرون إلى مؤتمر الصلح على أربعة بنود. تضمن أولها دحضاً تاريخياً ودينياً لمزاعم اليهود في التاريخ. وتضمن ثانيها رفضاً قاطعاً لوعد بلفور. أما البند الثالث فردّ على ادعاء الصهيونيين بأنهم يطلبون فلسطين باعتبارهم من الشعوب الضعيفة التي وعدها الحلفاء بالحرية. واحتوى البند الرابع على بيان بالأملاك والعقارات التي يملكها اليهود في فلسطين ولا تتجاوز نسبتها واحداً إلى أربعين، بينما لا تتجاوز نسبة اليهود تسعة في المئة من مجموع السكان[47].

هذا على الصعيد الفلسطيني المحلي، أما على الصعيد العربي فكان أول المعنيين بتصريح بلفور الحسين بن علي، ملك الحجاز، وأنجاله قادة قوات الثورة العربية الكبرى. وكان الحسين في مراسلاته مع هنري مكماهون Henry MacMahon المندوب السامي البريطاني في مصر قد طالب باعتراف بريطانيا باستقلال البلاد العربية في آسيا وقيام مملكة عربية واحدة تشملها. ووافق مكماهون في رده على رسالة الشريف حسين في 29/8/1915 على مطلب الحسين بقوله: “نؤكد لكم نصّ رسالة لورد كيتشنر Lord Kitchener التي تضمنت رغبتنا في استقلال البلاد العربية وسكانها مع موافقتنا على الخلافة العربية حينما يجب إعلانها”. وجاء في الرسالة نفسها بشأن مسألة حدود الدولة العربية: “أما بشأن مسألة الحدود فيبدو من السابق لأوانه إشغال وقتنا في بحث تفاصيل كهذه في حمّى الحرب”. وبطبيعة الحال كانت فلسطين جزءاً من الدولة العربية التي طالب بها الحسين ووافق عليها مكماهون وقبله كيتشنر. ردّ الحسين على رسالة مكماهون هذه غاضباً في 9/9/1918، باعتباره زعيماً لحركة ثورية منظمة، وأكد في رده هذا أن الحدود التي أشار إليها ضرورية لصالح الدولة العربية المقبلة. وقال فيها أيضاً أنه ليس هو شخصياً الذي يطالب بهذه الحدود التي تشمل الجنس العربي، ولكنها كلها مطالب الشعب الذي يؤمن بأنها ضرورية لحياته الاقتصادية[48].

لما علم الملك حسين، ملك الحجاز، بتصريح بلفور استوضح من المسؤولين البريطانيين في جدة والقاهرة عن حقيقة هذا التصريح. جاء إليه ديفيد هوغارث David Hogarth رئيس المكتب العربي في القاهرة (جهاز الاستخبارات العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط) وقابله في جدة بين 8 و14/1/1918، عشر مرات، لم تقل مدة كل مقابلة عن ساعة ونصف الساعة. وقد جاء في تقرير هوغارث عن مهمته ولقاءاته ما يلي:

رأيت الملك حسين للمرة الأولى في 8 كانون الثاني/ يناير وبين هذا التاريخ والرابع عشر من كانون الثاني/ يناير حينما غادرت جدة، قابلته عشر مرات لم تقل مدة كل مقابلة منها عن ساعة ونصف الساعة، وبلغت مدة بعضها ثلاث ساعات. كانت مهمتي قد تزامنت مع وصول السيد ج. ب فيلبي Mr. H. St. J. B. Philby I. C. S. الذي جاء من الرياض براً إلى جدة عن طريق ضرمة ووادي سبيع، وخرمة والطائف، وهي طريق جديدة آمل أن يصفها في عدد قادم للنشرة (Arab Bulletin التي كان يصدرها المكتب العربي Arab Bureau في القاهرة)، مع خمسة وثلاثين بدوياً من أتباع ابن سعود مختارين من قبائل متعددة، قام برحلته المميزة في وقت قصير جداً (واحد وعشرين يوماً ركوباً على الجمال دون أي عائق من أي نوع). وكان عليّ أن ألتقي به ونتعاون معاً لتخفيف الصعوبات التي ظهرت بين فينة وأخرى بين الملك حسين وابن سعود الذي حصل على ثقة السيد فيلبي خلال إقامته في الرياض، ولتأمين ترتيب عملي بينهما في صالح الوحدة العربية. وقد كلفت بالإضافة إلى ذلك لإبلاغ الملك عن نوايا الحلفاء بشأن فلسطين وترتيب موضوعات أخرى أقل أهمية، حول تمثيله في لجنة لندن العربية – اليهودية – الأرمنية The London Arab – Jew – Armenian Committee ووكالته في القاهرة.. إلخ.

حول النقاط الرئيسية الأخرى الخاصة بمهمتي، وجدت الملك معقولاً. فقد عبّر عن تعاطفه مع الإدارة الدولية لفلسطين وتشجيع اليهود على الاستيطان فيها. وأبدى ملاحظة من عنده بأن مجرى الحرب لا بدّ وأن يعدّل من نقاط معينة في اتفاقيته مع الحلفاء. وطلب أن يبلّغ بصراحة وبالتفصيل عن كل التعديلات المقترحة والأسباب الضرورية التي تقتضيها. ولكن وبطبيعة الحال، ككل طرف يتوقع تطور الأحداث ويحتفظ بحقه في إبداء تحفظاته. وثقته بدولة بريطانيا العظمى وصدق نواياها لا حدود لها، ويضع نفسه بلا تحفظ بين يديها. وقال: “هي البحر العظيم الذي أسبح فيه”.

في انغماسه بالخداع حول نفوذه وقوته العسكرية وأيضاً حول معرفته المحلية بكل شيء، كان يمارس ما يفعله جميع الأطراف المتحاربة. لم يكن فعلاً متأكداً من وضعه الراهن ومن منطقة نفوذه المستقبلية أو من قدرته على السيطرة على الوضع العربي هنا وهناك وفي كل مكان، ويتباهى في حديثه عن أولاده وقواته الحجازية. كما أنني شخصياً لم أكن متأكداً من معرفته السياسية العربية، ومن إشاراته الغامضة إلى اضطراب ساحل الخليج ومن تأكيداته المبهمة عن أمور ابن رشيد، ومن آرائه الضبابية عن القبائل حول الفرات التي لم تثر إعجابي. وزاد ذلك منذ أن اكتشفت هفوات ذاكرته حول نقطة أو نقطتين من تاريخ الحجاز الحديث.

كان الملك حسين يثير موضوع لقبه في كل مناسبة. وكما هو معروف، يوقع باسم “ملك العرب” أو “ملك البلاد العربية” في رسائله إلى العرب وإلى موظفيه وفي جميع وثائقه الرسمية. ولكن الحلفاء لا يعترفون بهذا اللقب. ويرى أن هناك فرقاً كبيراً في العالم إذا فعلوا ذلك. وحجته أن حثّ العرب على الوحدة كلمات فارغة حتى يعيّن شخصية وحيدة يتوحدون حولها. ويعترف أن العرب ككل لم يطلبوا منه أن يكون ملكهم، ولكن لما كانوا جهلة ومتفرقين فكيف يمكن توقع ذلك منهم إذا لم يكن ملك العرب؟ والملك مخلص في قوميته العربية، ولكن موقفه الشخصي موقف أصيل. ويرغب بكل جوارحه أن يكون العرب أمة حرة وموحدة فيدرالياً تحت قيادته. وهو وحده القادر على قيادة مصيرهم. وأسرته أنبل الأسر العربية، وربما لا يعترف بنسل عربي أصيل يرقى إلى أشراف الحجاز. ويتساءل، من هو القادر على أن يرقى بنسبه في سورية والجزيرة العربية، ليكون ملكاً للجميع؟ حقاً لا يوجد أحد في سورية والعراق. وكان يردد مراراً أنه إذا فكرنا بأنه ليس كفؤاً ليكون ملك العرب، فسوف ينصاع لقرارنا، وعندها سيغادر الحجاز رسمياً وينهي أيامه في ظلّ حكمنا في مصر. والشيء الوحيد الذي لا يستطيع عمله هو البقاء ملكاً تحت سلطة عربية أخرى. فمكة لا يمكن أن تحتل المرتبة الثانية. وفي نقاشه يهزأ ربما بدون قصد من درس لتاريخ طويل قدمه السيد طالب (النقيب في العراق).

ويتباهى الملك بأنه مطلع على القدرة الحقيقية لأمته ومستوى وعيها السياسي المتدني، بلا شكّ، وأنه سوف يقبل نوعاً من الوصاية والحماية عليها، في الوقت المناسب بصورة أشد كثيراً مما سوف يسمع عنه المثقفون السوريون. ويقول إنه لن يقول لشعبه شيئاً عن هذه الخطة في المستقبل. ولديه أشياء عديدة سيقولها لهم، وهم لا يستطيعون سماعها الآن. وقد أغمض عينيه عن أشياء خاطئة كثيرة يعرفها كما نعرفها نحن.

وقد اقترب الوقت للبدء بإعلان رسالته ويجري العديد من الحسابات. واعترف، أثناء ذلك، بوجود تذمر منه في مكة وجدة وغيرهما، ولكن يده تمسك جيداً باللجام. فهو يحكم بدون قانون، سوى الشريعة الإسلامية التي يطبقها بصورة محدودة، ونتيجة لذلك يقوم بأشياء اعتباطية عديدة بعضها ضروري وبعضها الآخر ناجم عن المعرفة والخبرة الناقصة في الاقتصاد والأمور الضرورية الأخرى. ومن الطبيعي في ضوء المطالب غير المحدودة لقواته فإن همه الرئيسي هو المال، ولديه مشاريع مثيرة لتضخيم موازنته. فهو يريد التجارة لجني فوائد معقولة منها تضاف إلى خزينته. ومن الصعب إقناعه أن هذه النتيجة يمكن الحصول عليها مع القضاء على التجارة. وعجزه الرئيسي في قيام حكومة صالحة وافتقاره للمساعدين الجيدين. يكاد لا يوجد رجل كفؤ لديه يثق به، أو رجل لديه خبرة أو معرفة في الحكم، كما هو معروف في أوروبا.

هذه الصعوبة ظهرت من جديد عند بحث مسألة مندوب الحجاز في “لجنة لندن العربية – اليهودية – الأرمنية”. فقد منع الملك، في البداية، أي سوري أو عراقي من الترشح لهذا المنصب، وبعد ذلك لم يجد شخصاً يعينه يمكن أن يتحدث بلغة أوروبية مفهومة. قال الملك بأنه لن يرسل أحداً قد اختلط بالأتراك، وببساطة أشار إلى عدم الثقة بالأعضاء الموجودين في لجنة لندن. وقد أدركت أنه لا يحبذ فكرة أي لجنة من هذا النوع تنظر في المصالح، ويشعر أن عملها المستقل غير الخاضع لأي رقابة يتعارض مع اعتقاده بأنه الناطق الوحيد والفريد باسم الأمة العربية. أما في الأمور الثانوية الأخرى فلا توجد أي صعوبات من جانبه.

كان في سلوكه ودياً جداً حتى مع فيلبي الذي أثاره دفاعه عن ابن سعود مثلما أثارته بضع كلمات عن التزاماتنا المعاهدية مع ابن سعود التي قلتها له قبل أن أودعه على باخرة صاحب الجلالة هاردنج H. M. S Harding والتي تلقاها بالترحاب. جاء إلى الباخرة واستعرض الملاحين وتحدث إلى المسلمين الهنود، وجرب بعض الأسلحة شخصياً ودخّن سجاير من باب اللياقة والأدب مع أنه غير مدخن وأنهى ذلك بصلاة الظهر على الجسر، وذهب في قارب إلى عرض البحر لمسافة ميلين وأكثر.

ترك انطباعاً لديّ بأنه رجل داهية وعنيد ببنية جسدية استثنائية تماماً، وحذر وذكي وشجاع جداً ولديه أحياناً حسّ دبلوماسي مفاجئ، وفهم للشؤون الخارجية. ولد ليحكم، ولكن ربما لا ليحكم مدة طويلة. وإذا قدر له أن يحكم الأمة العربية فيجب أن يكون اتحاداً فيدرالياً لدول ذات سيادة مع حكم ذاتي محلي كامل، بحيث تكون سلطته رمزية ويكون رمزاً للوحدة والاتفاق[49].

لم يذكر هوغارث في تقريره هذا كيف أقنع الملك حسين بقبول تصريح بلفور، وما هي الحجج التي استعملها لإقناعه طوال ستة أيام التقى به عشر مرات دامت هذه اللقاءات في معدلاتها نحو عشرين ساعة. لا شكّ أن هوغارث قد استعمل مختلف أساليب الخداع والتضليل حتى يقنع الملك العربي بقبول ما جاء في تقريره. والدليل على ذلك أن الملك حسين عند انتهاء الحرب العالمية وانعقاد مؤتمر الصلح فوجئ بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين والعراق ورفض ذلك رفضاً باتاً. ورفض إبرام معاهدة مع بريطانيا تنص على اعترافه بما تمّ في مؤتمر الصلح في باريس، واستمرت هذه المفاوضات بين الملك حسين وبريطانيا أربع سنوات (1921–1924) انتهت بالفشل، وأسفرت عن تخليه عن عرشه وسوقه إلى قبرص منفياً حتى قرب أجله سنة 1931.

والواقع أنه لم يتوفر للملك حسين أيّ معلومات صحيحة ومفصلة عن الحركة الصهيونية وبرنامجها لاستعمار فلسطين وإقامة دولة لليهود فيها. وكان يجهل جهلاً تاماً نشاط المنظمة الصهيونية العالمية في عواصم الدول الكبرى وحتى في عاصمة الدولة العثمانية. وكان مصدر المعلومات الوحيد المتوفر لديه القنصلية البريطانية في جدة وممثله في القاهرة الذي كانت الصحف العربية الصادرة في مصر مصدره الرئيسي للمعلومات.

لم تكتف بريطانيا بتضليل الملك حسين، وإنما أرسلت بعثة صهيونية برئاسة حاييم وايزمن إلى فلسطين في ربيع سنة 1918، لإقناع أهلها بقبول المشروع الصهيوني. كما بيّنا سابقاً. وعند لقائه بأعيان القدس في 27/4/1918 قال وايزمن:

يرغب الصهاينة في خلق ظروف يتم فيها التطور الأخلاقي والقومي للشعب اليهودي الذي اختار بحرية القدوم إلى فلسطين. وهذا التطور لا ولن يكون على حساب أي من الجماعات المقيمة في البلاد أو مخالفاً لمصالحهم. كل المخاوف والمعبر عنها علناً أو سراً من قبل العرب تعزى إلى سوء الفهم الأساسي للأهداف والنوايا الصهيونية، أو النشاطات الشريرة لأعدائهم المشتركين[50].

ومن القدس سافر وايزمن إلى العقبة للقاء الأمير فيصل بن الحسين، قائد جيش الثورة العربية الكبرى الشمالي، فالتقى به في معسكر وهيدة. وحضر اللقاء الكولونيل جويس Col. Joyce من ضباط المكتب العربي في القاهرة الملحقين بجيش فيصل، بصفته مترجماً. وقد جاء في تقرير جويس إلى المكتب العربي في القاهرة ما يلي:

تمّ الاجتماع بين الأمير فيصل والدكتور وايزمن في الرابع من حزيران/ يونيو (1918) في وهيدة. كان الكولونيل جويس Lieut. Col. Joyce D. S. O. حاضراً ويعمل كمترجم. فالكولونيل لورنس كان غائباً في منطقة العمليات الشمالية في ذلك الوقت، وحال المرض دون وجود الميجور أورمسبي غور Major Ormsby Gore ودون سفره مع الوفد (الصهيوني). كان الاجتماع ودياً ويبدو أنه قد أدى إلى ارتياح متبادل. واتفق الطرفان على أن التعاون الوثيق بين اليهود والعرب ضروري وفي مصلحة كل منهما إذا توفر الاستقلال الثابت في البلاد الناطقة بالعربية. ولكن فيصل امتنع عن الدخول في إصدار بيان عن الترتيبات السياسية الدقيقة التي يفكر بها، وردّ (على طلب وايزمن) بأن والده وحده القادر على إصدار مثل هذا البيان. أخبره الدكتور وايزمن أن اليهود لا ينوون إقامة حكومة لهم وإنما يتمنون العمل تحت الحماية البريطانية لاستعمار فلسطين وتطويرها، آخذين في الاعتبار المصالح المشروعة القائمة. ردّ فيصل أنه في ضوء الاستعمال الخطير من قبل دعاية العدو لأي بيان من جانبه بشأن أية أرض عربية تسيطر عليها أيد غير عربية، فإنه سوف يبدي رأيه الشخصي بأن رغبة الدكتور وايزمن ليست غير قابلة للتحقيق. وهو يرحب بعرض الأخير بتمثيل أهداف العرب واليهود في أمريكا. وأعرب فيصل عن أمله في لقاء آخر فيما بعد. والمحصلة العملية لهذا اللقاء ليست أكثر من التعارف المتبادل بين زعيم الاتحاد الصهيوني والزعيم العربي الذي من المحتمل أن يكون له دور كأي شخص آخر في تكوين المصير السوري. ونشأ احترام متبادل بينهما. وحينما يأتي وقت التفاوض سيبدأ الفريقان بفكرة ما عن قيمة كل منهما والهدف الذي يسعى إليه[51].

كان فيصل كوالده لا يعرف شيئاً عن الحركة الصهيونية وبرنامجها ونشاطاتها. ولم يدل أي من ضباط الاستخبارات العسكرية البريطانية المرافقين له بأية معلومات له عن هذه الحركة وبرنامجها ونشاطاتها.

بعث مارك سايكس برسالة إلى الأمير فيصل بن الحسين في 3/3/1918 جاء فيها:

أعرف أن العرب يحتقرون اليهود ويدينونهم ويكرهونهم. ولكن العاطفة والتعصب يدمران الأمراء والشعوب.. وأولئك الذين اضطهدوا اليهود أو أدانوهم يخبرونك القصة. فإمبراطورية إسبانيا في أيامنا ترينا طريق الدمار الذي أدى إليه اضطهاد اليهود. قد تقول لنفسك: ما هو هذا العرق المحتقر والمنبوذ والممقوت الذي لا يستطيع القتال والذي لا وطن له، وليس له أمة؟ يا فيصل، أستطيع قراءة ما في قلبك وما في عقلك. هناك مستشارون حولك قد يوشوشون بأشاء مماثلة في أذنيك. صدّقني إنني أقول الحقيقة حينما أقول إن هذا العرق المحتقر والضعيف عالمي وقوي ولا يمكن إخضاعه[52].

كان مارك سايكس يسعى إلى إقناع الأمير العربي بالتعاون مع الصهاينة. وردّ عليه فيصل برسالة مؤرخة في 18/7/1918 جاء فيها: “أنا لم ولن أحتقر أياً كان بسبب دينه.. لذلك وبوجه عام أود أن أرحب بأي تفاهم طيب مع اليهود.. ولكن لا أعرف ما يجري، ولا أعرف أساس الترتيب المنوي عمله في فلسطين لليهود والعرب”[53].

وهكذا يتبين لنا أن المسؤولين العرب كانوا يجهلون المخطط الصهيوني والنوايا الخبيثة لحليفتهم بريطانيا.

وعلى الصعيد الإسلامي، اجتمعت في لندن “الجمعية الإسلامية” في 5/11/1918، واتخذت القرار التالي: “نحن أعضاء الجمعية الإسلامية ننظر بقلق شديد إلى الحركة المؤذية التي بدأها بعض الناس الذين يسمون أنفسهم صهاينة، ونأمل أن تصدر الحكومة البريطانية مرة ثانية تصريحاً عن سياستها في أقرب وقت لإزالة أي سوء تفاهم ينشأ في أذهان المسلمين”.

وبعد ذلك بخمسة أيام، كرر أمير علي، المحامي المسلم مؤسس جمعية الهلال الأحمر، هذه المخاوف، وقال في رسالة إلى لورد هاردنغ Lord Harding الأمين العام الدائم لوزارة الخارجية البريطانية:

فلسطين تعد في نظر المسلمين بلاداً مقدسة، والقدس تأتي في قدسيتها بعد مكة والمدينة. وروح نبيهم انطلقت من القدس في صعودها إلى السماء. والقدس وما حولها تعج بالأماكن الإسلامية المقدسة والمساجد والأضرحة. وسوف تكتشف، يا سعادة اللورد، كيف كانت الفكرة مؤذية لهم بوجوب وضع أماكنهم المقدسة في فلسطين تحت سيطرة اليهود[54].

ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن الوزير اللورد ناتانيال كيرزون Nathaniel Curzon عضو مجلس الحرب البريطاني بصفته لورد رئيس المجلس Lord President of the Council، سأل زملاءه في اجتماعهم الذي اتخذوا فيه قرار تصريح بلفور في 31/10/1917:

كيف يمكن اقتراح طرد الأغلبية الموجودة من السكان المسلمين واستقدام اليهود بدلاً منهم؟ وما هو مصير شعب هذا البلد، وقد سكن آباؤهم فيه ألفاً وخمس مئة سنة تقريباً؟ وهم يمتلكون الأرض ويعتنقون العقيدة المحمدية. إنهم لن يقبلوا أن تصادر ممتلكاتهم من أجل المهاجرين اليهود، وأن يعملوا مجرد سقاة وحطابين لهؤلاء.

وقد عارض كيرزون وإدوين مونتاغو، الوزير اليهودي في وزارة لويد جورج، عضو مجلس الحرب إصدار تصريح بلفور، بينما أيده كل من رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج، وآرثر بلفور وزير الخارجية، والسير ألفرد ميلنر Alfred Milner وزير المالية[55].

في تقاريرهم السرية التي لم يطلع عليها الملك حسين وأبناؤه، ذكر ضباط المخابرات العسكرية البريطانيون المرافقون لجيش فيصل آراءهم في تصريح بلفور. فهذا لورنس الذي يرى أن العرب لن يوافقوا على الاستقلال اليهودي في فلسطين[56]. وفي 2/5/1919 أبرق جلبرت كلايتون، مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة إلى لندن بنص مذكرة نصح فيها رئيس الإدارة العسكرية البريطانية في فلسطين الجنرال موني Gl. Money الحكومة البريطانية بالتخلي نهائياً عن تصريح بلفور[57]. وكان كلايتون قد اقترح على مارك سايكس المرافق للجنرال أللنبي Gl. Allenby قائد قوات الحملة المصرية البريطانية التي احتلت فلسطين، امتناع الحكومة البريطانية عن إصدار أي تصريح علني لصالح الصهيونية، لأنه لا مكسب منه وسيثير معارضة العرب لنا[58].

وعلقت جرترود بيل Gertrude Bell، عضو المكتب العربي في القاهرة على وعود بريطانيا السرية في أثناء الحرب العالمية الأولى، في رسالة إلى أمها بقولها: “تدفعني الخبرة التي اكتسبتها خلال الحرب إلى استنكار الوعود غير الحذرة والاتفاقيات الخيالية بشدة. نحن مثل الناس الذين يمشون في أرض غير معروفة يغطيها الضباب، ويتوجب علينا أن نعرف طريقنا وننتبه لكل خطوة نخطوها”. وبشأن تصريح بلفور كتبت إلى أمها: “إنني أعتقد أنه لا يمكن تحقيقه، فالبلاد غير ملائمة لأهداف اليهود المعروفة، هي بلاد فقيرة، وغير قابلة للتنمية، وثلثا سكانها من المسلمين العرب الذين ينظرون إلى اليهود باحتقار. إنه مشروع مصطنع كلياً، لا علاقة له البتة بالحقائق. وأتمنى له الفشل الذي يستحقه، وسيفشل كما أتخيل”[59].

بعد بضعة أشهر من صدور تصريح بلفور كتب لورنس رسالة إلى مارك سايكس جاء فيها:

أعترف تماماً أننا قد نبيع أصدقاءنا الصغار (العرب) من أجل مصلحة أصدقائنا الكبار (الحركة الصهيونية العالمية وفرنسا)، أو نبيع لفرنسا أمننا المستقبلي في الشرق الأدنى، مقابل انتصارنا الحالي في الفلاندرز (بلجيكا). إذا أخبرتني مرة أخرى ماذا علينا أن نعطي اليهود، وماذا علينا أن نعطي الفرنسيين، فسأعمل كل شيء ممكن لتسهيل ذلك. إنني موالٍ جداً لبريطانيا وموالٍ أيضاً للعرب[60].

وكتب في “أعمدة الحكمة السبعة”:

إذا انتصرنا في الحرب فإن الوعود المقطوعة للعرب من قبل مكماهون في مراسلاته مع الحسين ستكون حبراً على ورق، ولو كنت مستشاراً شريفاً لأرسلت رجالي إلى بيوتهم ولن أدعهم يخاطرون بحياتهم من أجل وعود كهذه. لقد كان تحفيز العرب أداتنا الرئيسية لكسب الحرب على الجبهة الشرقية. لقد أكدت لهم أن إنكلترا ستلتزم بكلامها نصّاً وروحاً. وبهذه المواساة قاموا بإنجاز أشيائهم الجميلة. ولكن، بالطبع، بدلاً من أن نفخر بما فعلنا معاً، كنت أشعر بالخجل بمرارة دائماً[61].

الخلاصة:

يتبين لنا من دراسة النشاط الصهيوني المحموم في عواصم الدول الكبرى، قبيل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها، أن قيادة المنظمة الصهيونية العالمية قد ركزت على كسب تأييد الشخصيات السياسية المهمة من صناع القرار السياسي في الدول الكبرى، وإقناعهم بجدوى وأهمية المشروع الصهيوني في تهجير اليهود إلى فلسطين وإقامة دولتهم فيها تحت حماية دولهم. ولجأوا إلى مختلف الطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة في سبيل ذلك. وسعوا إلى ربط مشروعهم الاستعماري بأطماع تلك الدول في المنطقة ومخططاتهم في السيطرة عليها واستغلال ثرواتها. ولم يبخل عليهم أغنياء اليهود في العالم بتقديم الدعم المالي والمعنوي لتنفيذ مشروعهم. وفي اتصالهم بصناع القرار لم يملوا أو يكلوا في الضغط عليهم لنيل موافقتهم ومساندتهم لمشروعهم.

وفي المقابل كانت الدوافع الدينية أحياناً وكراهية اليهود أحياناً أخرى والرغبة في التخلص من وجودهم في المجتمعات الأوروبية، واستخدامهم لتحقيق مصالحهم في المنطقة العربية وراء التأييد الأوروبي والأمريكي للمشروع الصهيوني.

وفي إطار الدولة العثمانية التي كانت فلسطين جزءاً منها، كانت حكومات الاتحاد والترقي التي سيطرت على الحكم وإدارة الدولة بين سنتي 1908 و1918، تتساهل في هجرة اليهود الكثيفة من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين. وكثيراً ما كانت تخضع لضغوط حلفائها الألمان وأصدقائها الأمريكيين، ولا تعير بالاً لتحذيرات النواب العرب في مجلس المبعوثان (البرلمان) العثماني من أخطار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولا تستجيب لمطالب سكان فلسطين في إيقاف هذه الهجرة، واتخاذ التدابير اللازمة لذلك. وأسهم الفساد الإداري والمالي في إدارة الدولة العثمانية في تسهيل هذه الهجرة. وعلى الرغم من الفرمانات التي أصدرها السلطان عبد الحميد الثاني، لم يلتزم بها ولاته في بيروت ودمشق ومتصرفو القدس المرتبطون مباشرة بوزارة الداخلية في العاصمة إسطنبول طوال هذه الفترة.

أما العرب المعنيون بالشأن الفلسطيني فهم أربع فئات آنذاك، هي: النواب في مجلس المبعوثان، وأعيان فلسطين، وقادة الثورة العربية الكبرى، والمثقفون والسياسيون السوريون والفلسطينيون المقيمون في مصر. فالنواب العرب في مجلس المبعوثان، وخصوصاً نواب فلسطين وبيروت ودمشق، كانوا يجهلون جهلاً تاماً الحركة الصهيونية وبرنامجها وأساليبها، وكان تركيزهم على ما تراه أعينهم، أي على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، دون أن يدركوا ما وراء هذه الهجرة من مشروع استعماري استيطاني يهدف إلى إقامة دولة يهودية في البلاد.

وأما أعيان فلسطين، فقد عارضوا الهجرة اليهودية إلى مدينة القدس لدوافع دينية خوفاً على تهويد المدينة وزوال طابعها الإسلامي. ومع ازدياد الهجرة اليهودية كثافة، طلبوا العون من الدولة العثمانية لإيقاف سيل الهجرة اليهودية المتواصل. ولكنهم كانوا يجهلون أيضاً الحركة الصهيونية وبرنامجها وأهدافها النهائية.

وقد بيّنا فيما سبق جهل الملك حسين بن علي، القائد الأعلى للثورة العربية الكبرى وأنجاله بالحركة الصهيونية وبرنامجها وأهدافها ونشاطها والوعود التي قطعت لها من الدول الكبرى الحليفة. كما كانوا يجهلون الاتفاقات السرية التي أبرمها الحلفاء حول مستقبل البلاد العربية الآسيوية، دون علمهم. وخضعوا لتضليل وخداع مبرمجين طوال مدة الحرب.

وكذلك كانت حال المثقفين والسياسيين السوريين والفلسطينيين المقيمين في مصر، والذين كانوا على اتصال بدار المندوب السامي البريطاني بالقاهرة وبالمسؤولين البريطانيين في المكتب العربي في العاصمة المصرية.

كان الفارق الحضاري والثقافي والمعرفي بشؤون العالم والعلاقات الدولية، ولا سيّما العلاقات بين الدول الكبرى كبيراً جداً بين الصهاينة والعرب. فقد كان العرب يجهلون العلاقات الدولية والحركة الصهيونية جهلاً تاماً، بينما كان الصهاينة على معرفة دقيقة وواسعة بالعلاقات الدولية وبصناع القرار السياسي في كل دولة كبرى، وعلى اتصال بهم، وسعوا إلى كسب تأييدهم لمشروعهم الاستعماري ونجحوا في ذلك.

[1] قدمت هذه المداخلة في حلقة نقاش “وعد بلفور: مئوية مشروع استعماري.. أي مستقبل للمشروع الصهيوني؟!”، الذي أقامه مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بالاشتراك مع المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن، في بيروت، في 17/11/2017.

[2] رئيس جامعة مؤتة وجامعة اليرموك في الأردن سابقاً، أستاذ شرف في قسم التاريخ في الجامعة الأردنية. حاصل على دكتوراه ﺍﻟﺤﻠﻘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ في ﺍﻟﺩﺭﺍﺴﺎﺕ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ من ﺠﺎﻤﻌﺔ ﺍﻟﺴﻭﺭﺒﻭﻥ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ، ﺒﺎﺭﻴﺱ 1971. ودكتوراه ﺩﻭﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻵﺩﺍﺏ ﻭﺍﻟﻌﻠﻭﻡ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻴﺔ من ﺠﺎﻤﻌﺔ ﺍﻟﺴﻭﺭﺒﻭﻥ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﺒﺎﺭﻴﺱ 1980.

[3] Ilan Pappé, Ten Myths About Israel (London: Verso, 2017), pp. 11–12.

[4] أمين عبد الله محمود، مشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، شباط/ فبراير 1984)، سلسلة عالم المعرفة، العدد 74، ص 13.

[5] المرجع نفسه، ص 14–15.

[6] علي محافظة، الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن (بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1987)، ص 20.

[7] المرجع نفسه، ص 20.

[8] Ilan Pappé, op. cit., p. 14.

[9] Ibid., pp. 16–17.

[10] أمين عبد الله محمود، مرجع سابق، ص 33–36.

[11] المرجع نفسه، ص 44.

[12] المرجع نفسه، ص 60.

[13] المرجع نفسه، ص 64–153.

[14] المرجع نفسه، ص 189–238.

[15] علي محافظة، العلاقات الألمانية الفلسطينية 18411945 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981)، ص 144.

[16] المرجع نفسه، ص 148.

[17] المرجع نفسه، ص 153.

[18] المرجع نفسه، ص 160.

[19] المرجع نفسه، ص 160–161.

[20] المرجع نفسه، ص 161–163.

[21] المرجع نفسه، ص 161–165.

[22] المرجع نفسه، ص 166–169.

[23] Leonard Stein, The Balfour Declaration (Jerusalem London: The Manges Press, The Hebrew University, and The Jewish Chronicle Publications, 1961), pp. 41, 43, 66–67, 97.

[24] Ibid., pp. 103, 113 and 116.

[25] Ibid., pp. 117–120, 127–128, 131, 137, 147, 153–156.

[26] Ibid., p. 157.

[27] Ibid., pp. 462, 465, and 470.

[28]  Ibid., pp. 471–473, 484, 521, and 548–549; and Jonathan Schneer, The Balfour Declaration: The Origins of Arab- Israeli Conflict, (London: Bloomsbury Publishing, 2011), pp. 335, 341.

[29]  Jonathan Schneer, op. cit, p. xxvii.

[30]  Ibid., p. 263.

[31]  Leonard Stein, op. cit., pp. 188–190, 195–197.

[32]  Jonathan Schneer, op. cit., p. 79.

[33] Ibid., pp. 214–215.

[34] علي محافظة، موقف فرنسا وألمانيا وإيطاليا من الوحدة العربية 1919–1945 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985)، ص 46–47.

[35] Ibid., pp. 11–13.

[36] جمعية بيكا PICA أنشئت سنة 1883 برعاية إدموند روتشيلد لشراء الأراضي في فلسطين. انظر: فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 18761919 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014)، ص 124.

[37] سهيلا سليمان الشلبي، شكري العسلي 18681916 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص 145.

[38] المرجع نفسه، ص 146–157.

[39] Ilan Pappé, op. cit., pp. 18–19.

[40] علي محافظة، الحركات الفكرية في عصر النهضة في فلسطين والأردن، ص 124.

[41] المرجع نفسه، ص 124–125.

[42] سهيلا سليمان الشلبي، مرجع سابق، ص 164–165.

[43] علي محافظة، “الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للحرب العالمية الأولى على فلسطين والأردن،” في رشيد خشانة (محرر)، الطريق إلى سايكس-بيكو: الحرب العالمية الأولى بعيون عربية (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، وبيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016)، ص 83–84.

[44] المرجع نفسه، ص 83.

[45] المرجع نفسه، ص 80.

[46] علي محافظة، الفكر السياسي في فلسطين من نهاية الحكم العثماني حتى نهاية الانتداب البريطاني 19181948، ط 2 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980)، ص 213–218.

[47] المرجع نفسه، ص 135.

[48] Jonathan Schneer, op. cit., pp. 59–60.

[49] David Hogarth, “Mission To King Husein,” Arab Bulletin, Arab Bureau, Cairo, no. 77, 27/1/1918, pp. 21–24.

[50] Leonard Stein, op. cit., p. 634.

[51] Faisal and Weizmann,” Arab Bulletin, in Arab Bureau, Cairo, no. 93, 18/6/1918, p. 208.

[52] Jonathan Schneer, op. cit., pp. 371–372.

[53] Ibid., p. 372.

[54] Ibid., p. 373.

[55] Ibid., pp. 341–342.

[56] Leonard Stein, op. cit., p. 638.

[57] Ibid., p. 645.

[58] Ibid., pp. 522–523.

[59] Jonathan Schneer, op. cit., pp. 83–84.

[60] Ibid., pp. 320–321.

[61] Ibid., p. 323.

قد يعجبك ايضا