“سيادة” الشعب / إيلي أنطون شويري

إيلي أنطون شويري ( لبنان ) الثلاثاء 27/2/2018 م …

كم من ألقاب (هي دخيلة على مجتمعنا ولغتنا وثقافتنا، من مُخَلّفات الإحتلالات على أنواعها من كل جهات الأرض) يلتهمها رجال الحكم في لبنان، وأيضا “وجهاء” الشعب الكثر وزعماء طوائفه، التهاما نَهِما، ويتبنّونها لهم ولذرِّيتهم من بعدهم، ويعشقونها وينفخون ريشهم بها، وينافسون الطواويس في مِشيةِ التبخترِ والزّهْوِ والخُيَلاء.




ما السِرّ، وما السِّحر في هذه الألقاب المُقتَبَسة و/أو المترجمة (آغا، أفندي، بيك، باشا، أمير، استاذ، مسيو، مستر، وألقاب أهل الحكم كسعادة وعطوفة ودولة وسيادة وفخامة) حتى تُحَوِّل أناسا غيرَ مُخلِدين، أصلُهم من تراب، ونهايتهم حتما إلى التراب وأجسادهم مأكل شهيّ للدود، إلى آلهة خالدة فائقة الفهم والقوة والعظمة في نظر أنفسهم، وفي نظر شعب قد أوصلهم، من خلال قانون انتخاب ظالم للشعب وحده، ومن خلال عمليّة إنتخاب تافهة، عبثية، يحرّكها مال الرشوة، والتعصّب الديني والعائلي، تعيد ذاتها باستمرار، وتعيد معها الوجوهَ السعيدةَ عينَها، الى مراكزَ لها ألقابها الخاصة، العظيمة، الثابتة؟ والشعب، بتعلّقه بهم، وإدمانه المرَضِيّ على الإنحناء لهم وتبخيرهم حتى العبادة، إنما هو يغذي، على حسابه الخاص ومن حيث لا يدري، أو لا يريد أن يدري، هذا الشعور بالعظمة في حاملي الألقاب، والشعور بأنه، أي الشعب العابد لأصنام الزعماء، عظيم بعظمتهم، وهو، في الحقيقة، لا شيء بنظرهم، سوى سلّم يتسلقونه إلى عروشهم، وحربة لحمايتهم ضدّ سائر الزعماء وشركاء الوطن والقانون والدولة.

لكلّ المراكز في حكومات شعوب الأرض ألقابها المناسبة. غير أن جنون العظمة لا يضرب رؤوس المسؤولين فيها بنسبة عالية جدا، ولا يَسْكنُهَا حتى القبر وما بعد القبر، كما يضرب ويسكن رؤوس الساسة اللبنانيين. (نترك لعلماء النفس تحليل هذه الظاهرة المزمنة، الغريبة، الوراثية، المريضة، ونكتفي بالإشارة إليها وأخذ العِبَر منها، وهدفنا الحقيقي هو توعية الشعب وإيقاظه من سباته الوراثي العميق الذي دام، مع ديمومة عظمة زعمائه، ويا للعجب العجاب، قرونا طوالا).

من الحديث الشريف: الناس نيامٌ إذا ماتوا انتبهوا. ما نريده للشعب اللبناني ألّا ينتظر حتى يموت لكي ينتبهه ويستيقظ ويعي الحقيقة، حقيقة خداع وخيانة أصحاب الألقاب له، في عالم آخر حيث تزول الألقاب، وحيث لا ينفع الوعي ولا الندم. الشعب اللبناني نائم. إنه نائم عن كل الشواذات والأغلاط المميتة للمسؤولين المتكبرين، الذين لا يحترمونه، ولا يهتمّون بتلبية حاجاته الملحة، وبخدمته، وضمان حاضره ومستقبله كما تفرض عليهم مبادىء الأخلاق الحميدة، وكما يعدونهه دائما حين يكونون بحاجة ماسة إلى صوته في صندوق الإقتراع. إن كل اهتمامهم مُنْصَبّ على بناء ألقابهم وأمجادهم وثرواتهم وسعادتهم هم وعيالهم وحدهم، على ذلّ الشعب وتعاسة. مطلوب من الشعب أن يستيقظ من نومه هذا، هنا والآن، لا فيما بعد في عالم الأبدية، وأن يضع حدّا لرفضه ممارسة حقه في محاسبة ممثليه في الحكم، ومعاقبتهم بعدم انتخابهم من جديد، إن لم يعتذروا منه ويتوبوا توبة صادقة (هل يتوبون؟) عن أخطائهم.

كم يبدو الأمر سهلا وبسيطا، أمر توبة المسؤولين، حاملي الألقاب، وأمر محاسبتهم ومعاقبتهم من قبل الشعب المغبون. ولكن، كم هو في الواقع أمر صعب، إلى درجة الإستحالة، في كلتا الحالتَيْن، لشدّة ما أصبحت عادة الإثنين قوية متحكِّمة بالطبع والسلوك، عادة الساسة بإهمال شعبهم من جهة، وعادة الشعب بإهمال حقه وواجبه بمحاسبة السياسيين، من جهة أخرى.

إن الشعب اللبناني الطيّب، والمتسامح، والنائم، هو، في الحقيقة، متآمر ضدّ نفسه مع المآمرين ضدّه ممَّنْ لم يكونوا أمناء على عهودهم ووعودهم تجاهه. وإذا لم ينتبه من نومه، فلا أحد سينقذه من استمرار هلاكه المُحَتَّم بممارسته لعملية انتحار بطيء. إذا بقي متفرجا بإعجاب على حاملي الألقاب المتكبرين والأنانيّين وقصيري النظر، الذين يتسبّبون في حرق بيته ووطنه ورسالته الإنسانية الحضارية، وفي جعل شذاذ الآفاق، من كل حدب وصوب، يستبيحون أرضه، وكرامته، وحياته، فلا أمل له أبدا بأي خلاص.

فليتذكر الشعب ما قيل عنه بانه شعب عظيم، وبأن صوته من صوت الله. وليتذكر أيضا ما قيل عنه بأنه مصدر كل السلطات. وليتصرّف كما يقتضي هذا التذكّر وهذا الوعي. ولينقُضْ ما يقوله عنه، عن حق، ربما، واستنادا الى عِبَرِ التاريخ، بعض المفكرين السياسيين، وكم يستغلّ هذا القول الكثير من الساسة الخبثاء، بأن الشعب قصير الذاكرة، أي ينسى، بسرعة، إذلال وخيانة الساسة له، ويمكّنهم ويشجّعهم بكل سهولة، بناءًا على ذلك، من متابعة خداعهم له بالكلام المعسول والكذب والباطنية، دون أن يبديَ أية شكوك بنواياهم وأفعالهم، وأية ردود فعل غاضبة ضدّهم تخيفهم.

أيها الشعب الطيّب، حان الوقت أن تصحوَ من نومك، وأن تنتبه وتتيقظ اليوم، ولا تبقى نائما، وغائبا عن واقع ما يُخَطِّطُ لك أصحاب الألقاب العظيمة، وهم يوهمونك كل يوم بأنك أنت العظيم. عليك أن تعيَ وتفهمَ حقيقة من يمثلك في الحكم وتدفع له أجرته بسخاء، ثم يخون الأمانة. وعليك أن تغضب وتثور، ليس في الأغاني الحماسية وحسب، وفي حفلات ندب وتأسّف ولعن وشتم عابرة. أجل، عليك أن تغضب وتثور باستمرار، وتنوي قلب الأوضاع الفاسدة رأسا على عقب. أعلنها، إذًا، ثورة حتى النصر:

على من سرق منك قوتك واستقلالك وحريتك وسيادتك ومالك وسلامك وصحتك وسعادتك ومستقبلك، وهو يدّعي، دون خجل، غيرته على مصلحتك “العليا”،

وعلى من تآمر عليك مع آلهة القوة والمال والشر، ومنع تسليح جيشك، وزجّه عدة مرات في معارك قاسية ضدّ الإرهاب، واكتفى بالتغنّي الكاذب بأمجاده وبطولاته، والترحّم على شهدائه فقط، واحتقر مقاومتك وتضحياتها وشهداءها وتآمر عليها مع الأعداء،

وعلى من منع ازدهارك وتقدمك ووحدتك، وشوّه ارضك ولوّث هواءك وغذاءك ومياهك، وهو وحده الشبعان والمرتاح والمحصَّن والسعيد في هذا الوطن التعيس،

وعلى من يرفض أن يحلّ مشكلة النفايات القاتلة للشعب الكادح وللبيئة في كل مكان، إن لم يربح الأموال الطائلة في صفقات مشبوهة مع شركات أجنبية قد جفلت وابتعدت من تطلبات وأطماع بعض الساسة غير المعقولة، كما صرّحت إحداها،

وعلى من يرفض أن يحلّ أية مشكلة أخرى (كاستخراج الغاز والنفط من بحر لبنان وأرضه، وتصريف الإنتاج اللبناني الصناعي والزراعي وحمايته من المضاربات الخارجية، وتوفير الماء والكهرباء…)، إلّا إذا ضَمَنَ ضمانا أكيدا لنفسه جَنْيَ أرباحه الشخصية منها،

وعلى من يساهم بتفاقم ما يُسَمّى ب”الدين العام”، ومتابعة الإستدانة من الخارج، وكلها ديون على أكتافك أنتَ، أيها الشعب اللبناني، لا على أكتاف حاملي الألقاب العظيمة، من أجل إفلاسك، وتيئيسك، وإخضاعك، وإجبارك، شيئا فشيئا، على “التطبيع” مع الكيان العنصري في فلسطين، عدوّك وعدوّ الحضارة، المتربّص بك وبرسالتك الإنسانية البريئة، شرا،

وعلى من لم يحاول أبدا إيجاد الحلول لمشكلة التسوّل والبطالة والفقر وغلاء المعيشة وزيادة الضرائب، ومشكلة الأمراض الناتجة عن التلوث، ومشكلة الهجرة والإنتحار والجريمة، واكتفى بحماية وتحصين نفسه وحده، هو وعائلته وحاشيته، بالألقاب وتكديس الثروات والعقارات بكل الوسائل، وبناء القصور، وبكل أنواع الإستثمارات غير المفيدة للشعب بشيء،

وعلى من يتقاسمك ويستملكك كقطعة لحم أو جبنة أو أرض، في زمن تقاسم الحصص والإستملاك بين الزعماء، كلما حان موعد الإنتخابات، ولا يحترمك كمصدر لسلطته وقراره، ولا يحترم صوت الله فيك، هذا الصوت الذي أوصله الى حيث هو اليوم لينعم وحده بخيرات المركز واللقب والمال والمجد والحصانة، فيلتجىء بكل لهفة وبكل وقاحة الى مصادر أخرى للسلطة والقرار خارج الوطن، هي، في الحقيقة، وعلنا، ضدّ الوطن، يسمع صوتها وحسب، ويمجدها ويبخرها، ويخضع وينحني لسلطتها، ويأتمر بأوامرها، ويَنْسَحِر ويتلذّذ ويتنعّم بشمّ روائح هباتها ومَكرُماتها، ويجد كل التبريرات الكاذبة لفعلته هذه وأهمها مصلحة الشعب “العليا”، ناسيا إياك، مستغبيا إياك، غير آبه بمشاعرك وكرامتك، وبهمومك ومآسيك ومستقبلك، وبكلمة الشرف التي يعطيك إياها دائما حين يزحف اليك على يديه ورجليه وبطنه لاستجداء صوتك، بأن يكون خادما أمينا لك، فإذا به يتحوّل الى خادم أمين لمصلحته الشخصية ولآلهة المال والشرّ.

أيها الشعب الطيّب، لا تصدّق أحدا بعد اليوم. روائح الفساد تفوح من حاملي الألقاب العظيمة، وتزكم الأنوف وتلوّث الأجواء. إن كنتَ تريد الحياة الشريفة الكريمة الحرّة، في وطنك أنتَ لا وطنهم هم، وطن حيتان المال وطواويس العظمة، وإن أردتَ أن تكون، ولو لمرّة واحدة في تاريخك التعيس، الرابح الأكبر، لا الخاسر الأكبر كما كنت دائما وكما أرادوك وكما عوّدوك أن تكون، إبدأ الآن بالتفكير، وبتنظيم صفوفك وتوحيد نفسك. إِخْتَرْ نُخَبَكَ الصالحة من عجينتك الطيبة أنت، بوعي كامل وحكمة وحَذَر، وسلّمها القيادة، وحضِّرْ نفسك لمراقبة أدائها ومحاسبتها طيلة فترة حكمها. ساعتها، يُقال عنك، بالمعنى الجيّد لا السيّء، إن أجدت الإختيار: كما تكون يُوَلّى عليك.

عليك أنت، أولا، أن تعيَ طاقاتك الخيِّرة الهائلة، النائمة في أعماق روحك، وأن تحترم نفسك، وتحترم كونك مصدر السلطات، وكون صوتك من صوت الله، لكي يحترمك ممثلوك في الحكم، ولكي تردعهم عن باطنيتهم وغيّهم وخبثهم وخداعهم وخيانتهم لك، ولكي تجعلهم يهابونك، ويتوقّفون عن بيعك وشرائك في أسواق النخاسة المحلّية والإقليمية والعالمية، ويؤدون الولاء لك أنت وحدك، لا لآلهة المال.

أيها الشعب الطيّب، قُمْ، الآن، من قبر نومك، ولتكن قيامة دائمة لا تثاؤب فيها ولا عودة بعدها إلى قبر النوم. كُنْ شعبا واحدا. قُمْ، إستردّ ذاكرتك من كل من سرقها، واستردّ صوتك وسلطتك وكرامتك وعنفوانك وسعادتك. قُمْ، إستردّ وجودك بالذات. قُمْ، أفرض وجودك على كل من لا يحترمك وعلى كل من يريدك دائما غائبا عنه في دنيا النوم ليرتاح من محاسبة الضمير اليقظ الحيّ القويّ، ضميرك أنت.

قُمْ، إنزع الألقاب عن الذين زوّروا إرادتك، وتسببوا بتعاستك، وخانوا عهدك، ولم يكونوا أهلا لثقتك، ومزِّق الأقنعة عن وجوههم، وارمِهِمْ في قبور النسيان، واَحْرِقْهُمْ في توقّد جمر ذاكرتك الذي لا يخمد، وفي نيران بركان ثورتك التي لا تنطفىء.

كُنْ أنت، وأنت وحدك، المستحقّ أن تحمل لقب سيادة الشعب، وفخامة الشعب، وسعادة الشعب، وعطوفة الشعب، ومعالي الشعب، ودولة الشعب. أجبر جبرا، لا تملّص منه، من تختارهم ليحكموك ويخدموك لا ليتحكموا بك، أجبرهم أن يحتكموا اليك وحدك، وأن ينحنوا لجلال وجودك وحدك، لا لجلالات أبالسة الظلمات.

إبدأ أنت، إذاً، يا فخامة الشعب، ويا سيادة الشعب، ويا دولة الشعب، ويا عطوفة الشعب، إبدأ ثورتك، الآن، على نفسك أولا. حرِّرْ وحصِّنْ نفسك من نفسك، ومن الذين نصّبوا أنفسهم آلهة عليك، آلهة لا تكفّ عن جلدك ومعاقبتك واستعبادك وخداعك كل يوم، وأنت لا تكفّ عن تمجيدها وعبادتها.

ذكّر نفسك، دائما، وبلا ملل، أنها ثورة لا أمل لك بأي نجاح فيها إلا باحترام نفسك أولا احتراما عميقا رصينا ككائن عاقل حرّ، لا آلة ميتة بيد أحد، ولا عبدا تحت إمرة أحد، وبالإيمان الراسخ بنفسك كمصدر صاف وحيد للسلطات، وبوعيك وعيا كاملا لقيمتك وللقوة الكامنة في أعماقك كصاحب صوت صادق، هادر، هو حقّا من صوت الله، ويحملُ في نبرته روحَ الألوهة ورهبتَها وقدسيّتها وتواضعها ومحبتها ونورَها المضيءَ لمحبّي النور، ونارَها الحارِقةَ للمنافقين، وبأداء دورك الحقيقيّ، كما تريد أنتَ، وكما يليق بك، كشعب صاحب تاريخ عريق ورسالة حضارية سامية، مُوَحَّد، قويّ، محبّ، مسالم، واع، أبيّ، حرّ، مستقلّ، سيّد نفسه.

قد يعجبك ايضا