المواطن العربي بين السياسة وسؤال الحرية والكرامة / د. فايز رشيد




د. فايز رشيد ( الخميس ) 22/2/2018 م …

الإنسان قيمة حقيقية في الوجود البشري، وبالضرورة هو مرتبط في حياته بمبادئ رئيسية، هي عزته وكرامته وحريته. ولطالما خيضت حروب منذ بدء تاريخ البشرية، نتيجة محاولات جماعات كثيرة سلب عزة وكرامة وحرية آخرين. وبالتالي، فإن هذه المبادئ مرتبطة عضويا بحقوق المواطنة، ولعل كلمة الخليفة العادل عمر بن الخطاب «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، تعبر عن توق الإنسان إلى الحرية، بمعنى كرهه الطبيعي للاستعباد من شخص، جماعة أو من سلطة تحكمه.
الحرية بالطبع لا تعني أن تفعل ما تشاء وتؤذي الآخرين، الحرية في أبهى معانيها أن تقول رأيك بدون خوف من عقاب، أو فصل من العمل أو اعتقال، إضافة بالطبع إلى كل مظاهرها الأخرى. وكدليل على صحة ما نقول، أكدت الدول المتقدمة على مبادئ العزة والحرية والكرامة في دساتيرها كنصوص «مقدسة»، فمثلا أيرلندا أدخلت هذه المبادئ في دستورها عام 1937، أما ألمانيا فقد ربطت دستورها بالكرامة التي وُضعت كأعلى مبدأ دستوري، وكسقف تمر من تحته كل القوانين، وكل مادة قانونية تعارض هذه المادة الدستورية تصبح باطلة، ففي الفقرة الأولى من المادة الأولى صيغت الجملة كالتالي :»كرامة الإنسان هي أمر لا يمس. ويجب احترامها وحمايتها، وهي واجب كل سلطات الدولة».
ومن الملاحظات المهمة أنه في شرح هذه المادة لم يُعرّف الإنسان المقصود بها، وبقي بلا جنس ولون وأصل وحالة وعمل، أي بقي التعريف مفتوحا ليشمل أي إنسان. لقد عانى الأوروبيون من النظام الإقطاعي وتفرد مجموعة بملكية الأرض، وما عليها من عباد، ذلك الذي ميز أوروبا آنذاك فظهرت كلمات مثل «الإقطاع»، «القن»، «القنية»، «المأمور» وغيرها من مصطلحات تتعلق بالأرض بما عليها من عاملين وملاك في العصور الوسطى، حيث أصبحت لهذه المفردات مكانتها التاريخية، يستخدمها الكتاب والمؤرخون في دراساتهم للعلاقات المتشابكة بين الأفراد والجماعات، إبان العصور الوسطى الإقطاعية.
في كتاب «قصة الحضارة» لوول ديورانت، وصف حياة الفلاحين في تلك الحقبة قائلا: إذا جاء الشتاء دخل الفلاح وزوجته، وأبناؤه وبهائمه وضيوفه في الكوخ ليدفئ بعضهم بعضا». ثم جاءت الثورة البورجوازية التي ظهرت في أوروبا أواخر القرون الوسطى، وتوسطت طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين الفقراء، وارتبط وجودها بالمدينة التي ساهمت بشكلٍ كبير في تطورها، لاسيما مع الثورة الصناعية التي مكّنتها من القضاء على امتيازات النبلاء وانتزاع السلطة منهم. استطاعت إلغاء امتيازات النبلاء وأبعدتهم عن السلطة، وباتت هي القوة الاجتماعية الضاربة والمهيمنة على الحياة. رأى فيها كارل ماركس طبقة اجتماعية مهيمنة في البلدان الرأسمالية، بحكم سيطرتها على وسائل الإنتاج، واستغلالها للطبقة الكادحة (البروليتاريا) بالإبقاء على الأجور في أدنى مستوياتها، محققة بذلك هدفا مزدوجا، فمن ناحية تُبقي كلفة الإنتاج منخفضة، ما يضمن هامش ربح أكبر، ومن ناحية أخرى تُبقي الطبقة الكادحة ضعيفة، نظرا لتواضع دخلها، لكن يعود إليها الفضل في تفجير الثورة الفرنسية عام 1789، التي كانت لها آثار مشهودة على كامل أوروبا، إذ فتحت عيون شعوب القارة على الثورة على الاستبداد وحكم النبلاء بالتحالف مع الكنيسة. ونجحت البورجوازية في إقصاء طبقة النبلاء من السلطة، عبر إلغاء امتيازاتها من خلال وضع أسس دولة القانون، التي هي أنموذج الحكم السائد اليوم في أوروبا وأمريكا الشمالية، وتقوم على المساواة والمواطنة وإلغاء الامتيازات، وربط المردودية بالعمل والجهد المبذول من قبل الشخص. منذ تلك اللحظة بدأت مفاهيم الحرية، الكرامة والعزة تتسع عرضا وطولا في استحقاقاتها في هذه الدول.
بالطبع، فإن البلدان العربية، لم تمر بالمتغيرات الاقتصادية الأوروبية، زيادة على ذلك، جرى استعمار معظمها من قبل العديد من الدول الغربية، لاستعمالها كأسواق للبضائع الأوروبية، وامتصاص ثرواتها والاستفادة من جغرافيتها لتوسيع الشبكة الاستعمارية واستعباد شعوبها. بالتالي حرمت من التفاعل بين مظهري الحرية والوعي الاجتماعي، باعتبارهما وجهان لعملة واحدة، وهي الوصول بالمجتمع إلى مرحلة من الرقي الفكري والنضج المعرفي والسمو الأخلاقي. تحررت الدول العربية من الاستعمار، في ظل وجود بقايا تأثيرات له على الطبقات الحاكمة الجديدة في بلدانها، وهي التي تأثرت حكما بقوانين السلطات الاستعمارية، لهذا كانت أساليبها في معظم الأحيان أميل إلى قمع مواطنيها، فالحرية في ظل مستويات ضيقة وسطحية من الوعي المجتمعي سوف تعمل في إطار فاقد للتوازن وعاجز عن تشخيص حقيقة الحالة المجتمعية، بالتالي سيبقيها على علّتها لأنه يفتقد القدرة على الانطلاق بها لمرحلة التأثير وتقديم الحلول للمشكلات والتحديات التي تواجهها المجتمعات، سواء الأخلاقية منها أو الاجتماعية أوالثقافية والفكرية أو التعليمية أو الاقتصادية وغيرها، إضافة إلى أن الطبقات الحاكمة تفتقد إلى الحرية من خلال تبعيتها المطلقة منذ البداية لغيرها، من دون امتلاكها لهامش حركي بسيط، في ظل افتقاد الوعي لتحويل الواقع السلبي إلى وقائع إيجابية، فهي لا تمتلك لا الأطر ولا الأدوات والآليات لتحقيق ذلك، وهي من الأساس لا تؤمن بأي نقد لسياساتها، فهي في أجواء السلطة التي تعيشها، تقترب من مقولة إنها التمثيل الإلهي للسلطة على الشعب، لذلك يصبح نقد السلطة تطاولا فظا يستحق صاحبه السجن والتعذيب، وأحيانا الشنق. من هنا أفضى هذا الوضع إلى المزيد من القمع للجماهير من جهة، ومن جهة أخرى محاولة قتل الاعتراضات الدائرة في عقول معظم الناس، لصالح إقناع الناس ولو قسريا بـ»عدالة» السلطة الحاكمة، وأفضالها الكثيرة علينا، وأنه لولا حكمتها لما تنفس المواطن العربي الهواء. في بعض بلداننا العربية، ما زال المواطنون يعتقلون ويختفون وما زال المعتقلون يعذبون بطرق بشعة. في وطننا العربي يقضي بعض المواطنين في السجن سنوات طويلة من دون تهم توجه إليهم. في القرن الواحد والعشرين ممنوع عليك الترشح للرئاسة، وإلا جرى اعتقالك، ولفقت لك تهم تبقيك في السجن سنوات، أو ستموت في حادث سيارة. في وطننا العربي ممنوع الانتقاد للسياسات الحكومية الأعلى. في وطننا العربي يغتني المسؤول خلال أشهر معدودات. في وطننا العربي يزداد عدد الباحثين عن الأكل في حاويات الزبالة، رغم الثروات ومئات المليارات، التي انتزعها ترامب من العرب. في وطننا العربي يعلن نتنياهو أن هناك تحالفات استراتيجية بين إسرائيل ودول عربية. كما جرى توقيع اتفاقية لتصدير الغاز الإسرائيلي بقيمة 15 مليار دولار إلى مصر (الذي هو في الأساس عربي- فإسرائيل تسرق الغاز اللبناني من البحر الأبيض المتوسط، والواقع في المياه الإقليمية اللبنانية). صباح كل يوم تقتل فيه إسرائيل فلسطينيين أو ثلاثة، وتهود القدس وتصادر المزيد من الأراضي الفلسطينية، ولا ردود شافية رسمية عربية.
بالتالي، من حقنا التساؤل: أين هي عزة وكرامة وحرية المواطن العربي؟ هي موجودة بالطبع لدى كل مواطن عربي، ولكن من غير المسموح لها أن تظهر، فأجهزة الدولة بنيت لحماية سلطتها من الأخطار الداخلية وليس من الخطر الخارجي فقط النقد البناء والاعتراف بالرأي والرأي الآخر وحرية التعبير في ظل القانون هي الكفيلة بالتطور. فالوعي يمنح الحرية مساحة أكبر للبروز والظهور والتأثير والاستدامة، واقتناص الفرص وتوظيف البدائل، وخلق مرحلة متفاعلة منسجمة في فهمها للحريات، إذ هي بالأساس يتوجب أن تكون حريات مكفولة يضمنها القانون وتحميها الأنظمة والتشريعات حقيقةً، وليس شكلا روتينيا مكتوبا، يظل في الورق والأدراج، ليس إلّا.

قد يعجبك ايضا