تركيا العثمانية القديمة والجديدة… استهداف كلّ شيء إلا الغرب الأوروبي / محمد شريف الجيوسي

 

محمد شريف الجيوسي

تذكّر المذابح التركية العثمانية ضدّ الأرمن والسريان والعرب وشعوب الأناضول، بمسائل عديدة، وهي المذابح الممتدة تاريخياً وجغرافياً على مدى عقود. ولم تقتصر تلك المجازر على مذابح الأرمن والسريان قبل قرن كامل من الزمن فقط، فقد سبقتها مذابح أخرى ضدهما، وضدّ شعوب الأناضول، ولم يكن حال العرب، مسلمين ومسيحيين، بأحسن حال في عهد السلطنة المسمّاة خلافة إسلامية، وإنْ كانت أقلّ وطأة مما نُفّذ تجاه الأرمن والسريان، لكن يكفي العرب أنّ الأتراك تركوا البلاد والعباد أو أجبروا على تركها، أشدّ تخلفاً على كلّ الصعد وأقلّ أمناً واستقراراً.

تزامن تقدم الترك باتجاه شرق أوروبا مع تقدم الغرب الأوروبي على أنقاض العرب المسلمين في شبة جزيرة إيبيرية وطردهم جنوباً، فكانت السلطنة العثمانية التركية الإسلامية وبالاً مرتين على العرب والمسلمين، مرة باستعمارهم 4 قرون عجاف، ومرة بإخراجهم من الأندلس بعد 8 قرون من وجودٍ حضاري متميز، حيث يشدّد مؤرخون على وجود علاقة تواطؤ بين تقدم السلطنة العثمانية في أوروبا الشرقية باتجاه الغرب، وبين فرض انحسار العرب المسلمين في غرب أوروبا باتجاه الجنوب إلى شمالي أفريقيا.

لم يكن ليعني تركيا العثمانية المتلفحة بغطاء الإسلام، كثيراً حال الأقطار العربية الإسلامية البعيدة، فتُركت نهباً للفرنسيين والإنجليز والطليان والإسبان والبرتغاليين، فيما أتيح لهم ممارسة أبشع أشكال التنكيل والقهر والتجهيل والتخلف، على ما تحت أيديهم من بقاع، وفرضوا التتريك في سنواتهم الأخيرة، واستشهد مئات الآلاف من العرب في حروبهم المستدامة.

كانت ألمانيا الصديقة الوحيدة لتركيا العثمانية، حيث تمكنت عبر هذه الصداقة من مدّ جذور اليهود في فلسطين، على نقيض ما يشاع بأنّ تركيا لم تسمح لليهود بالتواجد في فلسطين، فبالإضافة إلى مفاوضات القرض اليهودي بين السلطنة وهرتزل برعاية ألمانيا، والتي لم تنجح، أقيمت في مرج بني عامر في فلسطين أولى المستعمرات اليهودية، وقد أستقبل قيصر ألمانيا رسمياً من قبل اليهود في مدينة القدس وفي مستوطنة مرج بني عامر، على طريقة استقبال رؤساء الدول من قبل دول مستقلة، على وقع النشيد اليهودي.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، طردت الجندرمة التركية الموحّدين الدروز من قرية المطلة الفلسطينية الواقعة شمال فلسطين، لعجزهم عن دفع المكوس المفروضة عليهم، وأسكنت مكانهم مستوطنين يهود، وهذا ما يفسّر ردّ فعل بعض الدروز السلبية لاحقاً.

لم يكن حال الأتراك العثمانيين يوماً ليمثل حقيقة جوهر الإسلام وتعاليمه، وإن كان هو الذريعة التي أتاحت لهم حكم مناطق عربية عديدة لأربعة قرون، فقد فرّطوا بمكونات الأمّة العربية حين سمحوا للإرساليات الأجنبية الأوروبية الغربية بالتواجد، وأتاحوا لسفارات دول استعمارية الوصاية على العرب المسيحيين، حيث تقاسمت هذه السفارات الوصاية عليهم، من إنجليزية وفرنسية ونمساوية وغيرها، فكانت هذه السياسة مقدمة للتمييز والتفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وكانت هذه بداية استعمار المنطقة العربية واحتلالها.

لم تكن ممارسة الأتراك تجاه حروبهم الأوروبية تمتّ إلى الإسلام بصلة، حيث كانت تدبر أفدح أشكال القتل والسبي وأخذ الأطفال الأوروبيين لتنشئتهم تنشئة عسكرية، يقاتلوا بهم الأوروبيين وهو ما عرف بالانكشارية، وقد شكلت هذه الممارسات سبة في التاريخ.

عندما فكر محمد علي باشا بتوسيع دولته وتحديثها على حساب العثمانيين، وكاد يتم له ذلك، انتصرت أوروبا للرجل المريض، خشية قيام دولة عربية فتية قادرة على مواجهة الأطماع الغربية في المنطقة، مرجئة نهاية الرجل المريض إلى حين تكون فيه قادرة على تصفية أملاك السلطنة لصالحها، وليس لصالح المنطقة بالطبع، وهذا ما حدث لاحقاً.

لقد أنجزت أوروبا أهدافها في المنطقة على مراحل، ولم تكن المذابح الأرمنية والسريانية لتتم لو أنّ أوروبا لم تكن راغبة في حصولها، كما أنّ التتريك لم يكن ممكناً لو أنّ أوروبا كانت ترفضه، فقد كانت قادرة على فرض كلّ ما تريده على السلطنة بدليل تقاسمها الإشراف على الطوائف المسيحية العربية وإنفاذ الإرساليات، لكنّ هدف أوروبا لم يكن إصلاح السلطنة ومدّ عمرها وإنما توريطها في الحروب والأزمات وخلق الشروخ بين مكوناتها وبين السلطة الحاكمة وهذه المكونات، وصولاً إلى النهايات السعيدة بالنسبة إلى أوروبا.

إنّ ما يحدث الآن يماثل كثيراً ممارسات تركيا العثمانية، وفي كثير مما يحدث يتصل بتركيا العثمانيين الجدد مباشرة، واستعادةً لتاريخها الغابر من مذابح جماعية وإرهاب وتكفير وتفتيت وقتل على الهوية ودمار، فتركيا التي أبقى الأوروبيون عليها في حدود آسيا الصغرى، كانوا يدركون تماماً أنها لغم في المنطقة مهيأ للانفجار في الوقت المناسب ضدّ جيرانها، وليس ضدّ أوروبا، فأصبحت عضواً في حلف «ناتو»، لاستخدامها في الوقت المناسب شرقاً وجنوباً وشمالاً، لكنّ الأوروبيين رفضوا على مدى قرن من الزمن دمجها في أوروبا، فهم ينظرون إليها كشرٍّ مستطير ينبغي بقاؤه ليس ضدهم، وإنما ضدّ جيرانهم من عرب وإيرانيين ويونان وأرمن وربما روس، إن استطاعوا.

m.sh.jayousi hotmail.co.uk

عن صحيفة ” البناء ” اللبنانية

الأربعاء 29/4/2015 م

قد يعجبك ايضا