محاولات التسوية والتصفية بالحرب.. وشراء الوقت / د. فايز رشيد

 




د. فايز رشيد ( الخميس ) 8/2/2018 م …

هل ممكن لأوروبا أن تتصادم مع الولايات المتحدة في الموقف من التسوية في الشرق الأوسط؟ صحيح أن الموقف الأوروبي مختلف قليلا عن الآخر الأمريكي بالنسبة للقدس واعتبارها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، لكن مبادرة فرنسية جديدة ظهرت إلى العلن، في ظل إصرار إسرائيل من جهة، وإصرار أمريكي من جهة أخرى على تمرير «صفقة القرن» بالمفهوم الإسرائيلي لها، حتى إن السفير الأمريكي في إسرائيل أرسل تقريرا لوزارة خارجيته، يطلب منها أن تحذف صفة «المحتلة» عن الضفة الغربية.
هذا في ظل تخفيض (أو قطع) الإدارة الأمريكية مساعدتها للسلطة الفلسطينية وللأنروا، وفي ظل الدعوة الأمريكية لتوطين الفلسطينيين المتواجدين فيها! بالفعل يبدو أن إدارة ترامب كما سابقاتها من الإدارات الأمريكية تتعامل مع الشعوب العربية على أنھا لا تقرأ ولا تفقه، بل هي فاقدة للذاكرة ومسلوبة الإرادة، تصدق كل ما یقوله لها المسؤولون الأمريكیون عن خططھم في الشرق الأوسط لحل القضیة الفلسطینیة، ومساعدة الدول العربیة، خاصة دول الخلیج ضد إیران، وعن مھمتھم في القضاء على «داعش» والجماعات التكفیریة، التي أعلن الرئیس الأمريكي ترامب قبل وصوله إلى سدة الرئاسة أن أمريكا ستقضي علیھا خلال شھور! وعن حمایة الدول العربیة من عودة «داعش» إذا خرجت أمريكا من المنطقة.
من يقرأ تصريحات وزیر الخارجیة الأمريكي تیلرسون الأخيرة، التي كشف فيها السياسة الأمريكية في سوریة، حين قال: إن الجیش الأمريكي سیبقى في سوریا لتحقیق الھزیمة الكاملة لـ»داعش»، ولمواجھة نفوذ إیران، ولإسقاط الرئیس السوري بشار الأسد، لأن مصلحة أمريكا الوطنیة توجب الحفاظ على وجود عسكري ودبلوماسي في سوریا، ومنع تنظیم «داعش» من الظھور مجددا، وأن عدم الالتزام بذلك من قبل أمريكا، سیوفّر لإیران فرصة ذھبیة لتعزیز مواقعھا في سوریا والسیطرة على المنطقة. إسرائيل من جانبها تهدد بعدم السماح لإيران ببناء قواعد لها في سوريا، وتهدد بضرب قوافل السلاح التي ترسل من سوريا إلى حزب الله. من جانبه، فإن ليبرمان وزير الحرب الإسرائيلي يهدد لبنان، إن تجرأ على استغلال حقل النفط رقم (9) الذي هو عمليا يقع في المياه الإقليمية اللبنانية في البحر المتوسط، ويبعد عن ميناء حيفا 90 كيلومترا، وسط استنفار كافة الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة متوقعة عدوانا إسرائيليا وشيكا عليه.
من جانبها، فإن تركيا اخترقت الحدود السورية بجيشها، ومن قبلها الحدود العراقية بهدف حماية حدودها من إمكانية قيام دولة للأكراد في الشمال السوري، هؤلاء الذين تعتبرهم ألدّ أعدائها، لكننا لا ننسى تصريحات الرئيس أردوغان قبل بضع سنوات، عن الأطماع التركية في حلب والموصل، باعتبارهما كانتا يوما ولايتين عثمانيتين. في السياق نفسه تأتي الخطة الأمريكية بإنشاء جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل لحماية حدود سوريا مع كل من العراق وتركيا. إن كل ما يجري من عسكرة له أهداف متعددة: خدمة مبدأ أساسي أمني إسرائيلي نصه: عدم السماح لأي طرف عربي بامتلاك أية أسلحة متطورة تهدد أو قد تهدد الأمن الإسرائيلي. امتلاك قواعد عسكرية متقدمة في سوريا، تماما كالست قواعد الأمريكية في العراق، فھل یمكن لعاقل أن یصدق أن العشر قواعد الأمريكية التي يجري بناؤها في الشمال والشرق السوري هي من أجل قتال «داعش»؟ هل يمكن أخذ هذا الأمر على محمل الجد أو حسن النیة؟ وھل احتلال أمريكا لأجزاء من شمال وشرق سوریا هو أيضا لقتال «داعش»؟ یعلم القاصي والداني أن أمريكا ھي المصنّع والمسلّح الأول لـ»داعش»، وھذا ما أثبتته الوثائق الأمريكیة السریة، وصور الأقمار الصناعیة الروسیة، والاتھامات الرسمیة الروسیة التي تجاھلتھا أمريكا، والأحداث على الأرض، التي كشفت قیام القوات الأمريكیة بنقل عصابات التكفیریین من «داعش» و»النصرة» من المناطق المحاصرة من قبل الجیش السوري وحلفائه إلى مناطق أخرى.
لم یأت الأمريكیون إلى سوریا لمحاربة «داعش» والتكفیریین، ولكنھم أتوا لإطالة أمد الحرب واستنزاف سوریا وتفكیكھا، وزیادة معاناة الشعب السوري، ولمنع إیران من البقاء في سوریة، ولإبقاء حزب الله، عدو إسرائیل اللدود تحت عینھا، وفي مرمى نیرانھا في الوقت المناسب، ولإقامة توازن مع الوجود الروسي، حمایة لإسرائیل، وكل من یعتقد أن لأمريكا بوصلة غیر إسرائیل وأمنھا وحمایتھا فهو مخطئ.
إن من أهداف العسكرة الإسرائيلية والأمريكية والتركية بمعونة البعض العربي، هو من أجل مزيد من التفتيت لشعار «الأمن القومي العربي»، والنفخ في كور الصراعات المذهبية والطائفية والإثنية العربية، وهو مذهب قديم وضعه بن غوريون عام 1948 بعد قيام إسرائيل بتحويل وجهة الصراع معها إلى الصراعات المحلية العربية ـ العربية لتفتيت هذه الدول. جاء برنارد لويس في عام 1974 ليكسو هذا الهيكل العظمي لحما ويضع تفصيلاته. إن ما هو مطروح حاليا تصفية الأونروا التي تذكّر بوجود اللاجئين الفلسطينيين، وتصفية القضية الفلسطينية، وتمرير «صفقة القرن» من خلال الحرب والقوة. ومن أجل شراء الوقت فقط، جاءت المبادرة الفرنسیة البديلة. ھكذا قال الفرنسیون لرئیس السلطة الفلسطینیة محمود عباس عبر موفد سرّي خاص أرسله الرئیس ایمانویل ماكرون إلى رام الله، على ذمة جریدة «الحیاة» اللندنیة، داعیاً الرئيس عباس إلى عدم الانسحاب من العملیة السلمیة التي ترعاھا الولایات المتحدة، والتعرف على تفاصیل الخطة الامريكیة قبل اتخاذ القرار برفضھا، مؤكدا استعداد باریس لتقدیم خطة بدیلة، اذا فشلت الخطة الامريكیة، هذا ما أكدته القناة العاشرة الاسرائیلیة. هدف ماكرون هو تھدئة الفلسطینیین والرئيس عباس، ومن أجل إعطاء فرصة لخطة السلام الامريكیة والرد علیھا. للعلم سبق لفرنسا أن تقدمت بمبادرتين أولى وثانية، انتقصتا من الحقوق الوطنية الفلسطينية وأبقتا نقاط الخلاف الأساسية للمفاوضات بين الجانبين واتفاقهما معا، في الوقت الذي تخلق فيه إسرائيل وقائعها في تهويد القدس وزيادة الاستيطان، حيث انتفت أية إمكانية واقعية لقيام دولة فلسطينية.
للعلم، الرئیس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند أخذ على نفسه عھدا بان تعترف بلاده رسمیا بدولة فلسطین في حال فشل «مؤتمر السلام»، الذي دعت إليه باريس، شریطة أن یوقف الرئيس عباس مسعاه لطلب عضویة دولة فلسطین في الامم المتحدة، رأینا كیف أجھض نتنیاھو ھذا المؤتمر رافضا حضوره متھما باریس بالانحیاز للروایة الفلسطينية. لم ينعقد المؤتمر بالطبع ولم ينفذ أولاند اعترافه بالدولة الفلسطينية. ربما بالفعل تريد أوروبا أن تلعب دورا محوريا في التسوية بسبب وجود بعض التعارض بين قادة دولها والرئيس ترامب، غير أنها لن تستطيع الوقوف في وجه التسوية الأمريكية، فإسرائيل لن تقبل هذا الدور بالطبع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، حتى لو أزيح ترامب من منصبه، وفقا لما نقلته وسائل إعلامية كثيرة على لسان وزير الخارجية السابق جون كيري، أنه نصح الرئيس عباس بالثبات على موقفه، وعدم التفريط بحقوق الفلسطينيين! هذا الأمر مغاير للسياسة الأمريكية، ثم من سيأتي بعد ترامب هو متصهين على يمين ليو بنسكر، وهرتزل وجابوتنسكي وبن غوريون وشامير ونتنياهو وغيرهم. هم يخططون ويتآمرون، لكن شعبنا الفلسطيني البطل بمعاونة أشقائه من أبناء الأمة العربية، وكما استطاع إفشال مؤامرات كثيرة على مدى قرن زمني، سيفشل مخططهم التآمري الجديد.

قد يعجبك ايضا