غياب مؤسف للمشروع القومي العربي / د. فايز رشيد

 




د. فايز رشيد ( الجمعة ) 2/2/2018 م …

يعاني المشروع القومي العربي، كغيره من المشاريع الأيديولوجية التقليدية، من أزمة خاصة، ومع أنه واع لأزمته لكنه غير قادر نظرياً وعملياً على تجاوزها. وهذه الأزمة مرجعها بالأساس ليس التغيرات العالمية فحسب، وإنما أيضا وجود الدولة الصهيونية في قلب الجغرافيا العربية، والمخططات التي رسمت أمريكيا وغربيا وصهيونيا وعربيا، من قبل بعض الانظمة الرسمية العربية، بهدف إغراق العالم العربي في صراعات جديدة بينية، وعلى صعيد الدولة الواحد.
كما أننا لا ننكر مطلقا عوامل مثل التبعية والتخلف الاجتماعي والتأخر التاريخي للأمة العربية، من محيطها حتى خليجها، إضافة إلى فقدان الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وتجديده. لهذا بات المواطن العربي مقموعا، وإلى حدّ ما مسلوب الإرادة والفعل، ولذلك بدأ يعاني من تهميش مقصود في تقرير وصياغة مستقبله، عبر إغراقه بتلبية متطلبات عائلته الحياتية.
نعم الإنسان العربي يعاني قمعا من نظامه العربي وأجهزته الأمنية المتعددة، التي صنعت لا لاكتشاف المؤامرات الخارجية، بل لتحديد مسار وحركة وتفكير المواطن، في ظل سيطرة الاستعمار الخارجي على مقدراته وثرواته الطبيعية، وفي ظل خطة منهجية لعرقلة نشاطات الأحزاب الوطنية والقومية العربية واليسارية، واللجوء إلى تشكيل أحزاب تابعة، تتغنى بحمد السلطات الرسمية وإغراقها لمواطنيها بالخيرات! في أجواء من قمع حقيقي لحرية المواطن، حيث بات سؤال الحرية والعزة والكرامة آخر اهتمامات المواطن العربي، وإن أراد تحقيق قدر قليل منها، فعليه المغادرة والهجرة إلى دول خارجية، معروف عنها أنها تحافظ على كرامة الإنسان، صحيح أنها ليست مطلقة بالطبع، لكنها ستكون في بلد الاغتراب أفضل منها لمواطننا العربي في العديد من الأقطار العربية.
في حقيقة الأمر فإن الواقع العربي لا يعاني من انهيار الفكرة القومية فقط، بل يعاني أيضاً من انهيار وانطفاء السياسة، وانحسار دور الكثيرين من المثقفين العرب وانقطاعهم عن الالتزام بقضايا الواقع والأمة، وأصبحت الكلمة مصدرا للارتزاق .
هذا الى جانب تراجع الأحزاب السياسية في العالم العربي ونكوص القوى الوطنية التقدمية والعلمانية، علاوة على غياب الحركة الشعبية العربية التي تمثل أحد شروط نهوض وتبلور أي مشروع وطني ونهضوي جديد. ومن الواضح، أن انبعاث الحركات الدينية الظلامية هو تعبير عن اندثار وانطفاء السياسة التقدمية المتنورة، الطامحة إلى التغيير والارتقاء بوعي المجتمع، وصولا إلى النهضة في المجتمعات العربية. انبعاث القوى الإرهابية المتطرفة هو أيضا دليل قاطع على أزمة مجتمعنا، وما صعود الفكر القومي، ابان الحقبة الناصرية، كما الفكر الماركسي العربي في سنوات مضت، الا ترجمة لنهوض الحركة الشعبية الجزئي. إن فشل الخطاب القومي، ربما هو أحد أسباب اندلاع الصراعات في أكثر من بلد عربي، وغياب أفق سياسي قومي، عدا عن التمزق الحاصل في العالم العربي وغياب التضامن، كما يمكن تعميم الفشل على جميع النكسات والهزائم التي مرت بها الأمة العربية خلال العقود الأربعة الماضية.
لا شك في أن عدم الجرأة ووضوح الرؤية في الخطاب القومي، يشكلان المعضلات الأساسية في عدم تكوين المرجعية العربية المنشودة والمعنية بالتغيير، ولذلك لا بد من تغيير جذري في معالم هذا الخطاب من حيث المضمون، على أن يجسد تطلعات الشرائح الواسعة للجماهير العربية، وليس تمنيات النخب المثقفة التي أخفقت حتى الان في تحمل مسؤوليتها التاريخية، والتي سمحت لفئة من المرتزقة تدور في فلك السلاطين بامتلاك الساحة الوطنية والقومية. كذلك لا بد للخطاب القومي من أن يصيب ويلامس الوجدان الشعبي العربي ويعزز الثقة ويبعث الأمل في الذات العربية المحبطة واليائسة والمهزومة. وعليه أيضاً أن يحتوي على إشارات للتراث والانتقال إلى مواقع جديدة تلتقي مع العلم والمعرفة ليصبح الوعاء لإنتاج المعرفة الحديثة. كما على الخطاب القومي العربي أن يبحث عن مفاعيل جديدة لاستئناف العمل على طريق تعميم الفكر القومي النهضوي التنويري العربي، وأن يقدم طرحاً جديداً للعلاقة بين القطري والقومي، وهي علاقة مترابطة وجدلية، قادرة بتوجهاتها الوطنية الصادقة على الارتقاء بالفهمين من خلال خدمة بعضهما بعضا ليشكلا محورا للارتباط بالبعد الأممي الإنساني.
أيضا هناك مهمة تاريخية مشتركة أمام القوى المجتمعية العربية، وقوى الإصلاح والتغيير، من قوميين وعلمانيين وليبراليين وإسلاميين تقدميين مؤمنين بعروبتهم، وهي القيام بمراجعة ثقافية جادة في مواجهة الواقع المحبط بكل معطياته الذاتية والموضوعية، والعمل على تجديد الفكر القومي العربي، وإعادة التأسيس الفكري البنّاء والحضاري في حياة الأمة العربية. وكذلك العمل في جبهة وطنية متحدة من أجل الهدف الاستراتيجي بعيد المدى في إنشاء المجتمع الوطني المدني التعددي الديمقراطي، عبر عملية تنموية ونهضوية شاملة متحركة ومتدرجة في خطواتها وشعاراتها القابلة للتحقيق.
لطالما آمن جيلنا (جيل الخمسينيات والستينيات) بالفعل والنضال القومي العربي من المحيط إلى الخليج! إنها وحدة القضايا الوطنية والقومية العربية. نعم أصبحنا في زمن غير ذلك الزمن، نقولها بكل الألم: زاد الانغماس في القطرية العربية المقيتة.. أصبح كل بلد عربي يرفع شعار «بلدي أولا!» ودليلي على ما أقول، هو أن المتابع لردود الفعل العربية على ما يجري في فلسطين المحتلة، ينذهل لمدى اللاتوازن بين حجم الجرائم والاعتداءات الوحشية وردود الفعل القومية العربية، المقتصرة على بيانات استنكار رسمي وشعبي وأحزاب وطنية – تقدمية، إسلامية، وطنية ـ قومية ويسارية. بالفعل، إن استعراض تطور الحركة القومية العربية، من مرحلة الأفكار إلى الأيديولوجيا، بكل مراحلها التاريخية المعروفة، بدءا من مرحلة بدايات النهضة أيام محمد علي، وصولا إلى الحاضر، فإن محددات كثيرة تلعب دورا رئيسيا في الحكم على الفكر، إيجابا أو سلبا. المحدد الأول، هو مواصفات القائمين على الفكرة ذاتها! أسوق مثلا، انهيار الاتحاد السوفييتي، لا ولن يعبر عن فشل الفكر الماركسي، بل هو فشل للقائمين عليه. المحدد الثاني في الحكم على الفكر، هو مدى انسجام الفكر مع الواقع، فالفكر يجب أن يولد من صميم هذا الواقع ، لا أن يأتي بعيدا عن تقاليده، عاداته وسلوكه. المحدد الثالث للحكم على الفكر، أن يتم التعامل معه بالروح العلمية القادرة على التطور، في عملية مزاوجة حقيقية مع سمات الوطني، المحدد الرابع للفكر، هو مدى استجابته للأهداف الوطنية، كخطوة أولى على طريق استجابته للأهداف القومية التحررية، ومدى المضي قدما في تحويله وتفصيله من خلال خطوات محسوسة، تجري ترجمتها على أرض الواقع، ليشكل معتنق هذا الفكر، الأمثولة الحية الطليعية في المجتمع، من دون مراهقة. المحدد الخامس، الابتعاد عن اللاهوتية. المحدد السادس الجمع بين العروبة والإسلام.
لقد مرّ الفكر القومي في تحولات إيجابية في معظم مراحله. صحيح أن ساطع الحصري وضع أبجديات الفكر القومي العربي، غير أنه من الصحيح أيضا، أن قسطنطين زريق، وضع له الأساس العملي والعلمي له، وتعامل معه على قاعدة «علم يتزاوج مع الإبداع». كما طوره الراحل الدكتور جورج حبش، وأضفى عليه ملامح التوجه إلى الإنسانية جمعاء، إضافة إلى باحثين كثيرين منهم عبدالله عبدالدايم، حيث تحقق بعض من الانسجام ما بين الفكر القومي العربي، والتوجه نحو الأيديولوجيات المعتنقة الأخرى.ن عم، ما أحوجنا الآن إلى مشروع قومي عربي فاعل وديناميكي.
كاتب فلسطيني

قد يعجبك ايضا