الدولار الأمريكي وسرقة العالم / د. مروان الزعبي

د. مروان الزعبي * ( الأردن ) الأربعاء 3/1/2018 م …

اتسمت السياسة النقدية للولايات المتحدة منذ إندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2007، الأمريكية المنشأ، بتخفيض أسعار الفائدة وطباعة النقد بشكل جنوني. وهنا أشير قبل الخوض في التحليل إلى أن تخفيض سعر الفائدة يساهم في تخفيض قيمة العملة ، لأنها تصبح أقل جاذبية وكذلك الحال بالنسبة لزيادة طباعة النقد. هذه الإجراءات بالإضافة لتراجع النمو الإقتصادي الأمريكي ، أدتإلى إنخفاض سعر صرف الدولار بشكل كبير جداً. لقد إنخفض متوسط سعر الدولار خلال الفترة 2007  2013م بما نسبته 30% مقارنة بمتوسط سعره مقابل اليورو خلال الفترة 2002 – 1999م (حسب بيانات البنك المركزي الأوروبي).




إن طباعة النقد وتخفيض قيمة الدولار الأمريكي أدت إلى سرقة العالم!! وأدت إلى إرتفاع أسعار النفط والذهب وبقية المعادن النفيسة بشكل كبير جداً ، وكذلك إرتفاع أسعار السلع والخدمات التي تعتمد على الدولار كأساس للتسعير وإنخفاض ثروة كل من إحتفظ بالدولار أو أي موجودات محرره به ووضع ثقته فيه ، سواءً لغايات الإستثمار أو الإدخار أو المضاربة أو التداول أو الدفع للمستوردات وغيرها . الحكومة الأمريكية عليها إلتزامات هائلة على شكل قروض ، وتخفيض الدولار يؤدي إلى إنخفاض قيمة هذه الإلتزامات الفعلية وتحقيق وفورات هائلة . وبذلك تكون الحكومة الأمريكية قد ضربت بعرض الحائط كل الدعوات للحفاظ على توازن هذه العملةوخذلت كل من وضع ثقته فيها . لكن الولايات المتحدة نسيت أن مثل هذه التصرفات اللامسؤولة المنفلتة ستقود الدول المتضررة منها إلى البحث عن بدائل وهذا ما حصل مؤخراً من قبل دول البريكس وقبلها منطقة اليورو .

إن الدولار ، ومنذ أن فك الرئيس الأمريكي نيكسون إرتباطه بقاعدة الذهب في عام 1973م ، أصبح عملة العالم الأولى شئنا ام أبينا ، فهو أصلاً منتشر في كافة أنحاء العالم لأنه كان مرتبطاً بالذهب حيث أن كل من إحتاج الذهب في حينه ، إشتراه من الولايات المتحدة بالسعر المحدد حسب قاعدة الذهب . لقد كانت هذه الخطوة بمثابة الخنجر في صدر كافة دول العالم حيث لم تعد تقبل أمريكا الدولار مقابل الذهب حسب السعر المتفق عليه لكن قاعدة الذهب ليست موضوع هذه المقالة ، لذلك أعود للقول أن أنانية وجشع وإنتهازية الولايات المتحدة دفعها إلى التحكم في سعر العملة بما يعكس مصالحها ليس ذلك فقط ، وإنما تعديها على مصالح الدول الأخرى ، غير مكترثة بالآثار المدمرة التي يتعرض لها المتعاملون بالدولار والناتجة عن التذبذبات الحادة في سعره وخاصة تخفيضه .

إن الدولار هي عملة يحملها الأمريكي وغير الأمريكي ، الفقير والغني ، الأفراد والحكومات ، الشركات الربحية وغير الربحية ، البنوك المركزية والبنوك التجارية ، الجمعيات وأي جهة لها تعامل مالي أو تجاري خارج حدود دولتها أو تبحث عن إستقرار ثروتها . الدولار عملة فرضتها الولايات المتحدة على العالم ولذلك هي المسؤولة عن إستقرارها من الناحيتين المهنية والأخلاقية .

كيف سرقت الولايات المتحدة العالم؟

1- طباعة النقد:

من المعروف أن طباعة النقد الغير مغطى بالذهب أو الذي يزيد عن حاجة الإقتصاد المحلي يمثل إيراد صافي للدولة لكن الحكومات تخشى طباعة النقد لأنه يؤدي إلى التضخم . الولايات المتحدة ليست قلقة من التضخم، لا بل هي تريد إرتفاع الأسعار لأنها في حالة ركود وتؤمن أن الإرتفاع المستمر للأسعار يزيد من مستوى التوظيف من خلال زيادة مستوى النمو ، ومن ناحية ثانية ، وبحسب تقارير الفيدرال ريزيرف، فإن ثلثي النقد المصدر يغادر الولايات المتحدة ، ولذلك فهو لا يشكل ضغطاً عليها ، ولكنه سوف يصبح السلاح الأقوى الموجه صوبها في المستقبل . الولايات المتحدة تعلم ذلك ، لذلك هي تطبع المزيد من النقد حتى تنخفض قيمته وتصبح قيمة إلتزاماتها أقل، وتستفيد من إيرادات الطباعة .

ما أقوله أن كل دولار زائد عن حاجة الإقتصاد تطبعه الولايات المتحدة هو سرقة . فلو إفترضنا أنها طبعت (100) دولار ، فهذه سرقة لأنها تطبع ورق وتأخذ في مقابله قيمة على شكل أصول أو سداد دين أو غيره . (33) دولار مسروقة من المواطن الأمريكي و(67) دولار مسروقة من خارج الولايات المتحدة. وهنا أشير إلى الجدول التالي الذي يبين حجم النقد المصدر خلال الفترة من 2004 – 2014م.

الزيادة في الدولار المصدر

(مليار دولار)

المتوسط السنوي

2004 – 2007م

2008م

2009م

2010م

2011م

2012م

2013م

أيار 2014م

الإجمالي

26

60

40

55

90

90

72

44

منه في أمريكا*

9

20

13

18

30

30

24

15

الباقي في الخارج

17

40

27

37

60

60

48

29

* المصدر : الفيدرال ريزيف / سانت لويس

نلاحظ اللامسؤولية في طباعة النقد خلال الأعوام 2008 – 2013م أصدرت الولايات المتحدة ما متوسطه (45) مليار دولار سنوياً غادرت الولايات المتحدة مقاربة بـ (17) مليار دولار متوسط الفترة 2004 – 2007 م السنوي . أي زيادة مقدارها (29) مليار دولار سنوياً بالمتوسط . ولكن لماذا تغادر الدولارات وإلى أين؟ الدولار يغادر مقابل إستيراد البضائع والخدمات أو تسديد إلتزامات أو تقديم المساعدات وغيرها ولذلك هناك العديد من المفكرين الذين يقولون إن الولايات المتحدة تغطي عجزها التجاري من خلال طباعة النقد . هي تأخذ أصول حقيقية مقابل ورق مطبوع بدون رقيب ولا حسيب . إن حجم النقد المطبوع لا يعكس الإستثمارات بالدولار . فهناك إستثمارات ليست نقدية لكنها محررة بالدولار مثل الأوراق المالية والأصول العقارية الامريكية وغيرها . كل هذه الإستثمارات إنخفضت قيمتها نتيجة تخفيض قيمة الدولار . الولايات المتحدة لم تكن قلقة في السابق من طباعة الدولار لأنها تعلم أنه سيذهب بدون عودة لأن هناك حاجة له من كافة المتعاملين وهذه الحاجة متزايدة . إختلف الوضع اليوم لأن هناك قوى وتكتلات بدات تظهر وتطرح بدائل للتعامل بالدولار وأصبحت عودة الدولارللولايات المتحدة مرتقبة وبشكل غير مسبوق .

2- الدين العام الأمريكي

الولايات المتحدة سرقت العالم بطريقة أخرى ، ألا وهي اللجوء إلى الإقتراض بشكل جنوني ، فلا ضير في ذلك طالما أنها تسدد بالطباعة! من المعروف أنه عندما تزداد الإلتزامات (وهنا أقصد ديون الولايات المتحدة) بعملة منخفضة ومستمرة في الإنخفاض ، فإن قيمة هذه الإلتزامات تنخفض عند تقييمها بعملة أخرى أو بالذهب . وهناك حديث في الولايات المتحدة بأن الفيدرال ريزيرف ينوي الإستمرار في تخفيض قيمة الدولار من خلال السماح للأسعار بالإرتفاع بما نسبته 2% سنوياً لمدة 20 سنة. وفي الأدبيات المالية، إن إرتفاع أسعار السلع والخدمات يخفض من قيمة العملة خاصة وأن غير الأمريكيين سيعكفون عن شراء البضائع والخدمات الأمريكية مرتفعة السعر إلا إذا إنخفض سعر صرف الدولار لتعود الأمور إلى حالة التوازن . وبنظرة إلى الجدول التالي يبين حجم الدين الأمريكي الحكومي الإجمالي (وليس الصافي):

رصيد دين الحكومة الأمريكية العام الإجمالي

متوسط الفترة

2004 – 2007م

2008م

2009م

2010م

2011م

2012م

2013م

2014م

الإجمالي (تريليون دولار)

8,6

10,7

12,4

14,2

15,4

16,6

17,6

18,5

نسبة من الناتج المحلي الإجمالي (%)

64

73

86

95

99

102

105

106

* المصدر : IMF: World Economic Outlook, 2014

وهنا نلاحظ أن ديون الولايات المتحدة أكثرمن تضاعفت خلال سبع سنوات وإرتفعت نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من 64% (متوسط الفترة 2004-2007م) إلى 106% في نهاية عام 2014م (حسب تقديرات الصندوق) . إذاً هناك زيادة في الدين تقارب نصف الناتج المحلي خلال السبع سنوات . ولو إفترضنا ان الدولار إنخفض بما نسبته 30% في 2014م مقارنة بالفترة 1999-2002م مقابل اليورو فإن قيمة الدين الإجمالي على الحكومة الأمريكية والبالغة (18,5) تريليون دولار في عام 2014م تكون قد إنخفضت بما قيمته 5.6 تريليون دولار عندما نقيمها باليورو . وهذه سرقة من نوع آخر ناتجة عن تخفيض قيمة الدولار دفع ثمنها دائنو الحكومة الأمريكية .

إذاً الخطر يداهمنا ويزداد قوة مع الزمن ، لذلك على كل المتعاملين بهذه العملة التخلص من جزء كبير منها وإضافة الذهب واليورو والين إلى محافظهم كبديل عن الدولار.

إلى أين يتجه العالم اليوم؟

إنها من سخريات القدر أن تجد نفسك تدافع عن شيء لست راغباً فيه ولا مؤمناً فيه (ومن نكد الدنيا على الحر     عدواً لك ما من صداقته بُدٌ) . يجد كافة المتعاملين بالورقة الخضراء أنفسهم في موقف الدفاع عنها حتى ولو كرهوا ذلك ، ومن هذه الزاوية فالعالم اليوم في ورطة ، كل العالم يريد الدفاع عن الدولار بعيداً عن أي إعتبارات داخلية او خارجية . وفي خضم هذه التطورات ، أدى إزدياد معروض الدولار إلى تنشيط المحافل الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لكنها هذه المحاولات لم تجرؤ على البحث عن بدائل للدولار وإنما ذهبت للنظر في قضايا السياسة النقدية والأسواق المالية والرقابة والتشريعات وغيرها.  وهنالك الكثير من المراقبين والمحللين والمؤسسات الذين يطالبون بتغيير النظام المالي والنقدي العالمي بعد أن اكتشف العالم أن نظام السوق لوحدة لا يمكن أن يكون فعّالاً في الأزمات وإنه لا يمثل الوقاية الكافية من الأزمات. خاصة وإن هذا النظام يهمل المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية.

وبإتجاه آخر ، برزت تكتلات جديدة رافضة لإنتهازية الولايات المتحدة وهي ما يعرف بدول البريكس BRICS (البرازيل ، روسيا ، الهند ، الصين ، جنوب أفريقيا) . لكن قبل ذلك ، إتجهت الصين لتحقيق قاعدة “اليوان المعزز بالذهب” حتى تعطي لعملتها مصداقية ثم إتفقت مع أستراليا على إستبدال الدولار الامريكي بعملتيهما للدفع للتجارة البينية فيما بينهما .

تكتل البريكس بكل تأكيد لن يهدأ قبل أن يستغني عن الدولار الأمريكي وهو بالتأكيد سيبحث عن حل يتصف بالمصداقية والتوازن وهناك منطقة اليورو التي تستخدم اليورو في التعامل ، ويذكر بأنه تم تصميم اليورو بحيث يكون في النهاية معزز بالذهب .

إذاً هنالك ثلاثة مناطق للعملة هي:

– منطقة الدولار .
– منطقة اليوان / البريكس .
– منطقة اليورو.

وبالتأكيد ستنشأ تكتلات جديدة ، إن عنوان هذه التكتلات الجديدة الأول هو الإستغناء عن الدولار أو على الأقل وضعه في إطاره الصحيح.

الخلاصة:

الرعب الذي تنتظره الولايات المتحدة قادم لا محالة، ستدفع ثمن إستهتارها على الرغم من انها لن تستسلم بسهولة، لكن الخطر قادم ، مئات المليارات ستعود إليها في مقابل أصول وثروات حقيقية . هي تستقبل ورق ليس له قيمة وتدفع مقابله أشياء ذات قيمة ، هذه الدولارات العائدة فائض عن حاجة الولايات المتحدة ، لذلك سيجد البنك المركزي نفسه مجبراً على إستقبال هذه الدولارات وإرسالها إلى محرقته ، وهذه هي الكارثة ، الدول العربية وخاصة الخليجية ، يجب عليها التفكير بالتكتل والبدء في إستبدال الدولار بعملات اخرى والذهب قبل فوات الأوان، عليها ان تصنع كيان مستقل يستند إلى إقتصادياتها وحاجات شعوبها ، عليها ان تنهض وتبني كيان يخدمها ويخدم شعوبها ، متخلصة من تبعيتها لأي دولة.

لا يمكن لحالة الانفلات إن تستمر سواء أكان ذلك من خلال زيادة معروض الدولار أو تخفيض أسعار الفائدة أو تمويل العجز بعجز، فالعالم اليوم مطالب بموقف أخلاقي يتوج بوضع نظام نقدي ومالي متوازن يراعي مصالح الدول الفقيرة أولاً والدول النامية والناشئة بالإضافة للدول المتقدمة. ولا يمكن لنظام تتسيده دولة واحدة إن يستمر لأن ذلك يخلق حالة من العجز والإحباط ويقود في نهاية المطاف إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي.

لقد استطاع العالم في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي أن يأتي بنموذج توافقي متوازن توج بتأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وقبل ذلك، تأسيس بنك التسويات الدولية. وبعد عشرات السنين، لم يعد هذا النموذج قادراً على التعامل مع الأزمات. لقد وقفت هذه المؤسسات موقف العاجز عن تقديم حلول مقبولة.

د.مروان الزعبي

الرئيس المالي و الخبير الاقتصادي/شركة بارسونز

مدير معهد الدراسات المصرفية سابقا

الخبير المالي سابقا /صندوق النقد الدولي 

مدير تنفيذي سابقا /البنك المركزي الاردني

قد يعجبك ايضا