إلى أحلام مستغانمي تحية… واحذروا «إرهابنا»! / د. فايز رشيد




د. فايز رشيد ( فلسطين ) الأحد 3/12/2017 م …

بداية، يعرف قارئنا العربي أحلام مستغانمي، أديبة جزائرية عربية ملتزمة بقضايا وطنها وأمتها. أبوها أحد مناضلي الثورة الجزائرية، تكتب روايات جميلة، تطوّع اللغة العربية في ما تكتب بشكلٍ أخّاذ وجميل.
أذكر، أنني قرأت كل ما كتبته، بدءًا من «على مرفأ الأيام»، حتى ثلاثتيها الرائعة «ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير». دوّخت روايتها «ذاكرة الجسد» المبدع المرحوم نزار قباني، وهو الذي نادرا ما يدوخ أمام رواية – كما قال- ويستطرد: «لو ان أحدا طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه الرواية الاستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر.. لما ترددت لحظة واحدة». سبب الحديث، مقالة «ألم» للمبدعة أحلام، أرسلها لي الصديق رجاء فرنجية.
مقالة تشكو فيها حول ما يحققه مغنّ/عربي أو مغنية/ عربية من نجومية وغنى مالي، وهو لا يقول أو تقول غناء، بل كلاما سخيفاً وتفاهات، وانتشار هؤلاء وأغانيهم سريعا في الوطن العربي، في الوقت الذي لا يعرف فيه معظم العرب أصحاب الكفاءات الثقافية العربية – روائيين، كتّابا وغيرهم. تروي مستغانمي حادثة حصلت معها في بيروت، فتقول:»وصلتُ إلى بيروت في بداية التسعينيات، في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجوميّة العالميّة. أُغنية واحدة قذفت به إلى المجد. كانت أغنية «دي دي واه» شاغلة الناس ليلاً ونهاراً. كنت قادمة لتوِّي من باريس، وفي حوزتي مخطوط «الجسد»، أربعمئة صفحة، قضيت أربع سنوات في نحتها جملة جملة، محاوِلة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ النضالي للجزائر، إنقاذاً لماضينا، ورغبة في تعريف العالم العربي بأمجادنا وأوجاعنا، لكنني ما كنت أُعلن عن هويتي إلاّ ويُجاملني أحدهم قائلاً: آه.. أنتِ من بلاد الشاب خالد»، وتستشهد مستغانمي بحوادث أخرى شبيهة.
ولأن كاتب هذه السطور كتب عامين في العزيزة «القدس العربي» عن هذه الظاهرة وظواهر مرضية عربية أخرى في مقالاته، ومنها: «أمراض عربية، زمن المال وتفاهة الغناء والأنا»، تراني تألمت لما كتبته المبدعة مستغانمي، وصدقوني لو أن راقصة عربية سجّلت مذكراتها، لباعت عشرات الآلاف من النسخ، في الوقت الذي لا يبيع الروائي ألف نسخة من رواية استغرق سنوات في كتابة مخطوطها. تروى حادثة طريفة في هذا المجال: «التقت إحدى الراقصات المصريات، وكانت تركب سيارة فارهة، بالمرحوم نجيب محفوظ الحائز في ما بعد جائزة نوبل للأداب، في الشارع، وكان يركب سيارة قديمة مهلهلة، التقيا على الإشارة الضوئية متجاورين، وكانت حمراء، فما كان من الراقصة إلا أن التفتت إليه وخاطبته قائلة: سي نجيب، شايف قلة الأدب بتعمل إيه؟ والأدب يودي صاحبه فين؟» الحادثة تعتبر مقياسا عمليا لانقلاب المفاهيم في عصرنا.
الملتزمون في الأدب والرواية والقصة والشعر والسياسة، لا يفهمون الأدب وفق الفهم الأفلاطوني له «الفن للفن»، فمنذ بلزاك وفلوبير وصولا إلى الواقعية الاشتراكية، وحتى جمال الدين الأفغاني، الذي يرى أن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من أجل تفسير النبل الإنساني وإضاءة الطريق لأبناء أمته على قاعدة التمتع بالروح النقدية واستخدامها في مراجعة الماضي، وإنما أن الأدب قضية. لذا، فإن الأديب والمثقف، لا بد أن يتناول الواقع وتاريخ مجتمعه في أعماله، ويخدم قضاياه الوطنية. صحيح أنه حتى اللحظة، فإن تعريفا محددا للمثقف والأديب، لم تجر صياغته، انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها إليه، وانطلاقا من رؤية دوره، إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي أو في سياسة التغيير المجتمعي، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم المفكر الإيطالي غرامشي، فهو يرى الأدب والثقافة بأنهما نقل عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي، لذا، فإن هذا النقل يعيد صياغة المثقف عند غرامشي.
إن إحدى الحلقات المركزية في دور المثقف هي نقد الثقافة السلبية، التي تحاول التسيد كظاهرة، بغية تخليصها من الانحرافات التي تمنعها من تحقيق قيمها على أرض الواقع.. كذلك فإن دور المثقف يكمن في تطوير العوامل الإيجابية في الثقافة، من أجل العمل على امتدادها أفقياً في المجتمع ومنهجتها في مؤسسات من أجل تحويلها الى ممارسة عملية واقعية معاشة، وواجب المثقف: التصدي للعولمة الثقافية، التي لا تستهدف الحوار بين الثقافات، بل تسييد الثقافة الغربية، لأن منظومة علاقاتها هي التي أثبتت كفاءتها وفقا لفوكوياما، ووفقا لصراع حضارات هنتنغتون، بالطبع من دون التمترس وراء شعارات مثل، دعوى المحافظة على الأصالة التراثية، وإغلاق العيون عن كل جديد، بل يمكن المواءمة ما بين الأصيل القديم والبعض من العناصر الإيجابية الجديدة، التي في المعادلة النهائية، تستطيع ان تقدم أفضل خدمة للأصيل القديم.
من هذه الزاوية أرى أدب كاتباتنا العربيات أحلام مستغانمي، غادة السمان وغيرهما الكثيرات بالطبع (وهنا من الضرورة التأكيد على أن هذا الأمر لا يعني إيمانا بما يطلقون عليه «الكتابة النسوية»، فهذا المفهوم خطأ). ومن هنا أتوجه إلى المبدعة الفاضلة، أحلام مستغامي للتأكيد، على أن الشعوب، وإن تناست أديبا معينا في مرحلة ما، انقلبت فيها المفاهيم، فإنها بالضرورة ستعود إليه في مرحلة أخرى بعد أن تصحو من غفوتها. ولذلك لا ولن يضيرك في شيء سيدتي الفاضلة، يا من تناولتِ الهم الفلسطيني في روايتك، وأشد على يديك أنك تناولت الثورة الجزائرية، هذه التي كنا نبدأ يومنا الصباحي في المدرسة الابتدائية والإعدادية بالنشيد إليها في فلسطين، وكنا نجمع مصروفنا اليومي كل أسبوع وهو قرش واحد في تلك الأيام دعما لها، وما زلت أحفظ حتى في مرحلة عمري الحالية نشيد الثورة.. «قسما بالنازلات الماحقات». نعم، بدعم ومساندة أمتنا العربية لنضالنا الوطني الفلسطيني، ستتحرر فلسطين مثلما تحررت الجزائر.
أما بخصوصنا نحن كفلسطينيين فقد أصبحت مقاومتنا «إرهابا» في نظر السعودية وحلفائها، فقد شاهدنا مقاوماّ فلسطينياً عرضوه كإرهابي في فيلم أمام مؤتمر وزراء دفاع التحالف الإسلامي، الذي انعقد مؤخرا في الرياض! وكأنني أرى نتنياهو يزور قبر هرتزل وجابوتنسكي ويخاطبهما قائلا: «ألم أقل لكم أننا سنطوع حكام بلدانهم». تحولت مقاومتنا العربية المشروعة، من أنبل ظاهرة عربية في التاريخ – الوصف للزعيم الخالد جمال عبدالناصر، قاله في ذكرى ثورة 23 يوليو 1968، وسمعته منه بأذنيّ على الراديو، إلى ظاهرة «إرهابية»، أما الإرهابيون الحقيقيون الصهاينة، فقد تحولوا إلى حلفاء حقيقيين للبعض ممن يسمون أنفسهم عرباً (والعروبة منهم براء) ومن يسمون أنفسهم بالإسلاميين (والإسلام منهم براء) فديننا الحنيف هو دين (وأعدّوا لهم ما استطعم من قوة ومن رباط الخيل، وقاتلوا الذين يقاتلونكم، يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال). سارعت وزيرة صهيونية بالتقاط هذه المتغيرات في المواقف، فنادت بإقامة دولة للفلسطينيين في سيناء. وقال سفير إسرائيلي، بأن 13 سفيرا عربيا يتعاونون وينسقون معه سرّا حيث يعمل. إن ما يجري تنفيذه هو تصفية القضية الفلسطينية.
ما حدث ذكّرني بقصيدة محمود درويش «مديح الظل العالي» وفيها يقول:هل نستطيع الموت في ميلادنا الكحلي… أم نحتل مئذنة.. ونعلن في القبائل.. أن يثرب أجّرت قرآنها.. ليهود خيبر؟ حاصر حصارك، لا مفـر! سقطت ذراعك فالتقطها… واضرب عدوك.. لا مفر… وسقطتُ قربك، فالتقطني.. واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حــر. سقط القناع : عرب ٌ أطاعوا رومهم..عربٌ وباعوا روحهم.. عرب وضاعوا. والله غمـّس باسمك البحري أسبوع الولادة… واستراح إلى الأبد… ذكّرني أيضاً بما قاله نزار قباني، رأيت العروبةَ معروضةً في مزاد الأثاث القديم.. ولكنني ما رأيت العرب. وتستغربين يا أحلام؟ تحياتي إليك.

قد يعجبك ايضا