المهندس حسن فتحي.. فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء / محمد علي فقيه

محمد علي فقيه ( السبت ) 2/12/2017 م …




الأردن العربي –

تحل اليوم الذكرى الـ28 لوفاة المهندس المعماري حسن فتحي، مهندس الفقراء، صاحب فلسفة العمارة العربية المراعية للبيئة والأرض، والذي احتفل محرك البحث العالمي ”غوغل” بالذكرى 117 لميلاده.

ولد المهندس المعماري الرائد حسن فتحي في الثالث والعشرين من آذار مارس 1900 في مدينة الإسكندرية، لأسرة أرستقراطية. وفي سن الثمانية انتقل إلى القاهرة، حيث سكن مع أسرته في منطقة حلوان، وكان يهوى الرسم، مما أهله لدخول مدرسة المهندسخانة لدراسة العمارة، والتي تخرج فيها عام 1926.

عاش فتحي حياة رغدة وسهلة، لذلك عندما رأى الفلاحين صُدِم بفقرهم وسوء حالهم، فوهب نفسه لمساعدتهم وأراد أن ينشئ منازل إنسانية لفلاحي النيل. لذا يمكن القول إن قوته تكمن في أفكاره وليست في المباني التي قام بتصميمها، حيث لم يقدم طيلة حياته العامرة إلا ثلاثين مشروعاً من أشهرها “قرية القرنة”، ولم يكن يمل من حث المهندسين المعماريين على إعطاء البعد الإنساني في المقام الأول عند وضع التصميمات، إن هم أرادوا لمنجزاتهم العمرانية أن يُكتَب لها البقاء والصمود.

منذ عام 1963 حتى وفاته عام 1989 عمل حسن فتحي في العديد من اللجان في وزارة البحث العلمي المصرية والأمم المتحدة ومنظمة أغا خان. كما شارك في العديد من المؤتمرات الدولية والعربية، ومنذ ذلك الحين أصبح شخصية عالمية ويتردد اسمه في أنحاء العالم أجمع، حيث كان أول معماري من العالم النامي يحصل على جائزة أغا خان للعمارة عام 1980 والميدالية الذهبية للاتحاد الدولي للمعماريين في باريس عام 1984، وجائزة المعيشة السلمية المعروفة بجائزة نوبل البديلة.

أما محليا فقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959، والتقديرية للفنون عام 1969.

يوافق اليوم 30 تشرين الثاني نوفمبر الذكرى الثامنة والعشرين لوفاة المعماري حسن فتحي. وما زال صدى فكر حسن فتحي ومشاريعه العمرانية تتردد في الآفاق، لطالما طالب بحق الفقراء في مسكن آدمي، فطالب بضرورة عودة التراث المعماري والعربي الأصيل إلى مكانته الصحيحة، والتخلي عن ذلك التقليد الأعمى للعمارة الغربية التي قد لا تناسب البيئة العربية في بعض حالاتها.

في عام 1946 تم اختياره لتنفيذ مشروع القرنة الجديدة في مدينة الأقصر، لكن تم إيقاف المشروع قبل إنتهاء الأعمال فيه بسبب دمار ناجم عن فيضان نهر النيل، وتمت إثارة قضية حول الموضوع، واتضح أن هناك جهات لم تكن ترغب أن يمضي المشروع بناءً على فكر حسن فتحي.

يتحدث فتحي عن زيارته لقرية القرنة لأول مرة في منتصف الصيف‏، وكيف أنه اضطر للجوء إلى الظل ليحتمي من الشمس الحارقة فدخل مضيفة قريبة‏،‏ وفوجئ داخل مقصورتها بتيار بارد منعش من الهواء انبرى في البحث عن أسراره وتفسيره‏.‏ واكتشف أن هذا التيار كان سببه بناء المقصورة وظهرها إلى الريح الشمالية الباردة‏.‏ وقد فتح بناؤها التقليدي العبقري البسيط للريح فتحات صغيرة في صفين في أعلى الجدار‏.‏ كانت تلك اللمحة تخالف الشائع في التطبيق المعماري الذي يجعل الفتحات الكبرى في مواجهة الريح لاصطياد أكبر قدر من الهواء.‏

سافر فتحي إلى اليونان في أواخر الخمسينيات بعد أن قوبلت مشاريعه في مصر بالرفض من قبل المسؤولين، وخاصة مشروع تطوير القرية المصرية. في اليونان أنشأ معهداً باسم “دوكسياريس” أو علم الاستيطان، وعمل بالشراكة مع مهندس معماري شهير في مشاريع عدة كان أهمها مشروع مدينة المستقبل ومشروع نظام البنى التعاوني القائم على فكر حسن فتحي حول نظرية تقول إن شخصًأ واحدًا لا يمكن أن يبني بيتاً بمفرده، لكن عشرة أشخاص يستطيعون بناء عشره بيوت.

بنى حسن فتحي بيوتاً بالطوب اللبن، وسقفها بقباب صبغها بجمال معماري بديع، فلم يصممها كمهندس، يهتم بحساباته العلمية ومعاييره الهندسية في المتانة والتصميم فقط، لكنه طعّمها بروح فنان يرتبط ببيئته ويعشقها، ليضع لمساته الفنية الجمالية على المباني لتتجاوب مع البيئة المحيطة، بتكلفة اقتصادية بسيطة. ولم يكن البحث عن الأشكال المحلية مبعثه رغبة عاطفية للاحتفاظ ببعض من تذكار القرى القديمة، وإنما استعادة الإرث.

يقول فتحي: “كنت أود أن أمد جسراً على الفجوة التي تفصل المعمار الشعبي عن معمار المهندس التقليدي، وأن أوفر صلة متينة مرئية بين هذين المعمارين في شكل ملامح مشتركة بينهما معاً”.

وكان المهندس فتحي يرى أن استخدام مواد عالية التقنية، مثل قوالب الخرسانة المسلحة والحوائط الزجاجية، جرياً وراء التحديث، قد أدى بنا إلى كارثة مادية وإنسانية.

لقد نما في فكر حسن فتحي استخدام الطوب اللبن والطين في البناء؛ بناء على شواهد أثبتت قوة ومتانة هذه الخامة في البناء. فبعد بحوث علمية أجراها على النمط ذاته من المباني التاريخية، التي تعود لأكثر من 2500 عام، استنتج قوة خاماتها وتناسب تصاميمها. ومن تلك المباني مخازن قمح “الرامسيوم” في مدينة الأقصر المصرية والمبنية بخامة الطوب اللبن ومسقوفة بالقباب.

يقول فتحي عن فلسفته في بناء القباب: “حينما انتقل العرب إلى مرحلة الاستقرار، بادروا بإسقاط فلسفتهم في استعارات معمارية، تعكس رؤيتهم للكون، وهكذا ظهرت السماء كقبة تدعمها أربعة أعمدة.. هذا المفهوم الذي يعطي قيمة رمزية للبيت كتصغير للكون”.

لكن المنتقدين كانوا يستشهدون في نقدهم لهذا الأسلوب في البناء ببيوت الفلاحين المبنية بالطوب اللبن، والتي قد يصيبها العطن والظلام. ولكن بعد دراسته لتلك البيوت وجد فتحي أن العطن والظلام ليسا راجعين لكونها من الطين، بل يرجعان إلى الطريقة العشوائية التي يبني بها الفلاح بيته من دون مرشد، بعد أن انقطع عن تراثه. كما أن العلوم المعمارية لم تقدم حلولاً ترشده في بناء بيته في حدود اقتصادياته وإمكانات بيئته، ولم يدرك الفلاح المصري الفقير بخبراته البسيطة، أن يتغلب على مشكلة سقف منزله المبني بالطوب اللبن. فكان إما أن يضع على سقفه خوصاً، ما يتسبب في إحداث مشكلات كثيرة، أو يترك السقف عارياً. غير أن السقف باستخدام الخشب لم يكن متوفراً إلا للأغنياء الفلاحين، ولم يمتلك هؤلاء الفلاحون الفقراء مهارات بناء أسقف المباني باستخدام الطين.

وقد حلّ المهندس حسن فتحي مشكلة تسقيف المباني، باستخدام القبو ذي المنحنى السلسلي، وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص، واقتصرت على جهود الضغط على السقف. .

 

يقول أحد تلاميذ مدرسة فيلسوف العمارة حسن فتحي، مؤسس ومصمم قرية الساحة التراثية في بيروت، جمال مكة إن مذهب حسن فتحي المعماري تفوق على كل معماري العالم وفكره ويدرس اليوم في أرقى جامعات العالم، وبالأخص في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. ويضيف مكة أن فلسفة فتحي قائمة على أن أي بناء يجب أن يراعي البيئة والأرض اللتين يبنى فيهما، تماماً كما النبتة التي لا تعيش إلا في الجبال، فلا يمكن لذات النبتة أن تعيش في الصحارى على غرار النخيل.

ويشرح مكة قائلاً إن مادة “العمارة المستدامة” هي روح تعاليم حسن فتحي وهي تعني أن تبني منزلاً من الطبيعة باليد مستفيداً من الطوب واللبن والتراب من دون استيراد مواد مصنعة من اسمنت وغيرها. وطبيعة عمارة فتحي تراعي معدل البرد في الشتاء ومعدل الحرارة في الصيف فتعفي المواطن من تركيب مكةف للتبريد ومصاريفه الباهظة. فهو يفرض أن يكون اتجاه المنزل جنوبياً –غربياً مع مراعاة ضرورة وجود فناء أمام المنزل بشرط أن يكون هذان الاتجاهان المذكوران مسوّرين بكل أنواع الشجر ليخفف حرارة الشمس في العصر ولتخفيف البرد في الشتاء.

يقول فتحي: “كمهندس‏،‏ طالما أملك القدرة والوسيلة لإراحة الناس، فإن الله لن يغفر لي مطلقاً أن ارفع درجة الحرارة داخل البيت ‏17‏ درجة مئوية”.

وبحسب جمال مكة، كان حسن فتحي يسخر من دول الخليج العربية عندما يتباهى معماريوها ببناء الأبراج وإنه يريدون بناء “تاور” (برج) وإنه من علامات النهضة الغربية. فكان جوابه لهم “إن العرب بنوا الأبراج من اللبن والطين والخشب منذ حوالي 700 سنة في في تشبام وهي قرية تراثية في محافظة حضر موت شرق اليمن”.

يحذر جمال مكة من العمارة الاسمنتية الخالية من أي روح. ويقول: “نحن الآن نعيش في عصر “جمهورية الباطون” كما عنوان كتاب المهندس فيليب سكاف الذي اعتبر أن الاسمنت أو الباطون صار صورة للفوضى في البناء الذي ينتشر في لبنان. فبلداننا أضحت صورة من صورة العمارة السيئة التي تنتج تلوثاً فكرياً، وتلوث بصرياً، وعدم تركيز، وتوتراً عصبياً، وتشتتاً ذهنياً مفروضاً عليك من خلال الإعلانات الملّونة بألوان غير منسجمة والكثيرة التي تستقبلك وأنت على الطريق”.

أبراج اليمن المبنية بالطوب اللبن

باختصار شديد جمهورية الباطون لا تنتج إلا طاقة سلبية حيث من حق المواطن الطبيعي أن تكون الى جانب منزله جبال يتسلقها أو غابة خضراء أو سهول خضراء أو كهوف لكي يفرغ كل الطاقة السلبية التي يكتسبها بالعمل من خلال الجلوس أمام شاشات الكمبيوتر والهاتف والتلفاز والإضاءة القوية.. وغيرها.

يقول سكاف: “من قال لكم أيها اللبنانيون إن الحضارة هي الكلام على الحضارة؟ من قال لكم إن اللباس والعطور والسيارات الفخمة هي الحضارة؟ الحضارة تقاس بهندسة المنازل، بعرض الشوارع، وعلو الأشجار، وبالحدائق الملونة والمدى الذي يهتم فيه الشعب بمساحة عيشه وتراثه وتاريخه”.

يقول أستاذ علم الاجتماع المصري نبيل عبد الفتاح: “في إحدى مقابلاتي مع المعماري الحكيم حسن فتحي قال لي إن العمارة موسيقى مجففة نقلاً عن أحد الفلاسفة الألمان، وعندما أتامل وأرصد مسببات ومحركات العنف في المجتمع والدولة المصريين، أرى أن نمط العمارة والعمران السائد هو عنف مجفف وصلد. إن محدودية الحيز والكثافة السكانية داخله تبدوان أحد مسببات العنف، وذلك في ظل فوضى معمارية. ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب منها تداخل البيوت العشوائية بعضها ببعض ككتل من الخرسانة والطوب الأحمر متراصة وتتساند على بعضها البعض، من دون فواصل وفراغات في ما بين، مما يؤدى إلى انكشاف السكان بعضهم على بعض، على نحو يؤدي إلى انتهاك خصوصية الوحدات السكنية، ومن ثم خصوصية السكان، بما يؤدى إلى تفشي النميمة والتلاسن والخلافات بين الجيران وإلى إنتاج أشكال من العنف اللفظي والمادي والمعنوي من خلال الشجارات والنزاعات.

في إحدى المرات شارك حسن فتحي في مؤتر حول إسكان محدودي الدخل فطالب أن بإسكان المواطنين الفقراء الذين من دون دخل.

كان فتحي مهندس الفقراء لا يبحث عن رجال أعمال أغنياء ليصمم لهم قصوراً ومباني فخمة، بل كان يبحث عن هذا الفقير الذي قال عنه: “العميل الذي يعنيني هو من تمثله الإحصائيات التي تشير إلى أن هناك 800 مليون من البشر في العالم الثالث يموتون موتاً مبكراً بسبب الإسكان المشوّه غير الصحي .. هذا هو العميل الذي على المعماري الاهتمام به ولكنه لا يفعل .. إن الأمر يشبه الطبيب حافي القدمين في الصين .. إن هؤلاء يحتاجون إلى معماري حافي القدمين”.

 

قد يعجبك ايضا