تقرير عن سنوات الرعب.. عشرية الجزائر السوداء

سنوات الرعب.. عشرية الجزائر السوداء



محمد بوحميدي * ( الجزائر ) الأحد 29/10/2017 م …

*أستاذ في الفلسفة وكاتب صحفي ، مدير سابق للثقافة في وزارة الثقافة الجزائرية …

منذ بضعة أيام مرت الذكرى العشرون لمجزرة بن طلحة في الجزائر التي راح ضحيتها المئات من القتلى على يد الجماعات الإرهابية المسلحة التي ذبحت الأطفال الرضّع وبقرت بطون النساء الحوامل وقطعت رؤوس الكبار في السن! لماذا؟ لأنهم رفضوا الالتحاق بمشروع الإرهاب الوهابي التكفيري! ما أشبه اليوم بالبارحة! داعش والقاعدة في سورية هي ذاتها التي كانت تسمّى في الجزائر “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” و”الجماعة الإسلامية المسلحة”. فكر شاذ إرهابي وهابي واحد من منبع سعودي واحد! غوغاء مجرمون منحرفون يقودهم حاخام دموي في البنتاغون والموساد!

طاب عينيت

في طاب عينيت، الواقعة على سفوح جبال الشريعة، القرية الواقعة في وسط الطريق بين الاخضرار الوفير المتناثر بين الوادي والمياه المتجمعة في القاع والقمم التي تتساقط منها، نجت الطفلة المراهقة من المجزرة بمعجزة، حيث وقع الباب المحطم عليها وأخفاها عن عيون المجرمين. تجمدت رعباً، حين رأت خالها يذبح أمها، وأباها، وأخوتها…

غضب السكين المرفوعة فوق التوسلات والأجساد الجاثية على ركبة القاتل يمسك بها غلمانه من أجل إظهار ثلمة الرقبة. مشاهد من ذبح أضاحٍ بشرية ومن طقوسٍ هاربة من أزمنة سحيقة. صادفها في إحدى نوبات ركضها الجنوني في شوارع ميتيجا وكان برفقة كريمو جيلالي، وهي تضع حزاماً في رقبتها وفي يدها سلاح أبيض غير حقيقي. كانت تغرق في الصمت وفي عينيها ذلك الفراغ الذي ينظر إلى العدم، وإلى فراغ هذا العنف الذي انبثق من عائلتها التي بقيت تتألم إلى حد فقدان النطق.

انتظر حميد قشاد ستة أشهر حتى سماع أولى الكلمات التي تم انتزاعها منها مذهولاً. لقد تبع الفتاة في مركز الإيواء وتتبع معاناتها الصامتة. بكل صبر وأناة قام بجمع بعض الكلمات التي تنبع من فاجعتها الجوانية.

بعد عدة سنوات، جرب هو بنفسه أن يتكلم عن الموضوع لكنه بالكاد تمكن من كتابة بعض القصاصات المتقطعة عن العلاقة المستحيلة مع تلك الفتاة الناجية. قام بدسّ مقالته لي خلال إحدى النقاشات.

رايس

في أحد الأيام، قبل الإرهاب بوقت طويل، اختفى مندولين حاج أحمد. كان قد التقى بطبيب جراح مصري، ينتمي للإخوان المسلمين، أقنعه بترك الموسيقى وأن يمضي حياته في عبادة الله فقط. عائلة حاج أحمد كلها تتصف بالتقوى وبالإيمان الهادئ والقوي مثل كل الجزائريين، إيمان مع الرحمة، والتضامن في مجتمع متضامن وروابطه الاجتماعية قوية. اكتشف أحمد شيئاً ذا مغزى يضاف إلى الإيمان الموروث من والده. كيمياء الحواس والأمكنة التي نتكلم منها أو التي نصغي إليها. لم تتغير صداقة حاج أحمد مع حميد، الذي يعمل خرّاطاً، حين تحول إلى رجل علماني، ولا مع أصدقائه السكيرين أحياناً.

بل كان يضع شاحنته في خدمة عمليات إنقاذ الناس، في أي زلزال يحصل، أو في أية كارثة، أو عند الحاجة ويقوم بعملٍ مضنٍ من أجل إنجاز المسجد الذي بدأ والده ببنائه بالتعاون مع جمعية. لوقت طويل تعرض حاج أحمد للتفتيش من قبل الدرك قبل أن يتأكدوا أنه لا علاقة له بالإرهاب. لقد اضطر للهروب من منزله، كان الإرهابيون يريدون تصفيته. لم يكن بمستوى توقعاتهم. تسبب اعتداء الإرهابيين على بيته بفضيحة لهم وسط المؤمنين. واضطروا لتقديم الاعتذار له والضمانة بأن بإمكانه العودة لمنزله.

تقع رايس في أسفل جبال منطقة البليدة، غير بعيد عن طاب عينات وعن بوقارة، وهي تعد سوق بيع الحلويات بالجملة للجزائر العاصمة. وصل خبر المجزرة الرهيبة الذي رواه الفارون منها عن طريق التجار الموجودين عند المؤمنين المجتمعين لصلاة الفجر.

أدار حاج أحمد شاحنته. إنه يريد أن يدخل إلى الحقيقة الأخرى للعته. يجب غسل الموتى، غسلهم من الدم، وتقديم الدعم للذين بقوا أحياء هائمين في هذيانهم، وتحمّل حرارة شهر آب المضنية. لم يعد يعرف الزمان ولا المكان. عشرات القتلى، لم يحصي عددهم. بعد ذلك أتت قصص الهلوسة. في كل منزل دخله الإرهابيون، نفس المشاهد من سعار المجرمين الأصم، نفس الرغبة بالقتل بالسكين، مع تكرار حركات وطقوس عيد الأضحى. تحولت رايس إلى مذبح ليلي هائل.

إنها عودة مذهلة إلى معنى الرسالة التي وجهها الله إلى ابراهيم.. عاصفة من الأسئلة حول من هو الشخص الذي لم يعد ينتمي للطائفة الإسلامية. اللقاء – الصدمة مع المعنى العملي لكلمة الإخراج من الملة – الهجرة والتكفير-، وواجب قتل الخارجين على الملة، وإخراجهم من الملة الإسلامية. تم استبعاد الضحايا من عالم البشر عندما تم استبعادهم من دائرة المؤمنين الحقيقيين، وتم اعتبارهم خاطئين مرتين لأنه من المفترض أنهم يعلمون الرسالة الحقة ويستطيعون قياس مدى انحراف سلوكهم عن الضوابط والمعايير.

من بين جميع الروايات الخاصة بكل عائلة من منطقة رايس الغارقة في هذا المس الشيطاني، فإن قتل الأطفال بحرقهم في الأفران أغرق حاج أحمد في لجةٍ من الكآبة. كيف يمكن لرجل أن يذبح طفلاً رضيعاً ربما كان يبتسم له؟ كيف أمكن لرجل أن يذبح مراهقاً كان يتوسل إليه قائلاً: “خالي، لا تقتلني”؟ “خالي”، هذا النداء لصلة النسب، تماماً، تلك الصلة التي بنت لنا مجتمعاً، وتراتبية، وسلطة أخلاقية. وهذه التسمية “خالي” كانت تعطي للأخ الأكبر الحق بالإرشاد والتوبيخ لمن هم أصغر منه. كيف يمكن إعادة هذا المراهق إلى الحياة من جديد، والقول له إنه قد تم قتله باسم هذا المعتقد الجديد الوهابي الذي يرى أن الصلة الشرعية الوحيدة هي الصلة مع الله، وكل ماعدا ذلك خروج عن الدين وبدعة مذمومة؟

الخال، ابن الأخت، الأم، الأب، الأخت، الصهر يجب أن يختفوا من سلّم اهتمامات المؤمنين بحسب الوهابية السلفية المتعصبة. لم تعد توجد صلات اجتماعية. إذن، انطلاقاً من المفهوم عن العلاقة الصارمة والخاصة مع الله، عن استبعاد كل صلة أخرى، أو علاقة، أو ارتباط، حتى بالأم، الذي يعتقد به الوهابي يمكن أن تنشأ التراتبية بين المؤمنين، ونظام الطائفة، ودرجات الاستحقاق التي تجعل من الأمير رجلاً اختاره الله، ومن المستويات الأخرى المختلفة تصوراً عن المحطات والدرجات التي تنتظرهم في الجنة.

في منطقة البويرة، قام إرهابي بذبح أمه تحت بصر أميره لكي يثبت له أنه زاهد بهذا الكون الزائف. لقد طرأ تعديل على نظام الإنسانية نفسه.

مات المراهق مقتولاً على يدي خاله. حدثني حاج أحمد مطولاً عن تلك الأجساد التي تحمل آثار العذاب. وعلمني أمراً جوهرياً، قال لي: إن إنهاء حياة الحيوان، ذبح خروف صغير، يمكن له أن يثير فرحاً غامراً، شعوراً استثنائياً بالقوة الشديدة، بل بالنشوة لدى البعض. وغمغم قائلاً لي كم يجب على المؤمن أن يتجنب الابتهاج لأن الله وحده  من يهب الحياة، وأن هذا الانبعاث لـ “الأنا” يجعل من صاحب الأضحية يعتبر نفسه كالإله. إن ذلك إثم مفزع وخطر يتعذر قياسه بنظره. لقد باح لي بمخاوفه الخاصة بخصوص الموت، وضعني على مسار كنت أبحث عنه منذ زمن طويل، الشيء المشترك بين المصير الفردي والمصير الاجتماعي للنفس، والترابط بين الأمراض العقلية والأزمات الاجتماعية الكبرى.

محمود

اعتقد الأزهري أنه وجد المفتاح. رايس، بن طلحة، بوفاريق، حوش جرو، رامكا، هاد شكالا، بني مسوس، بني سليمان… جغرافيا من المجازر التي تثقل الروح بنفس السؤال الذي يطعن كالسكين: لماذا يقتلون الأطفال؟

لم يكن حاج أحمد، الميكانيكي وسائق الشاحنة، يملك جواباً. اخترع الأزهري كلمة “مجردين من الإنسانية”. كانت تلك الكلمة التي نطقها بمثابة علاج مستعجل للعذاب الذي تعانيه رؤوس الجميع. إنها الثقب الأسود في المنطق. كان هنالك أمر طارئ.

ما الذي يربحونه من قتل ريفيين بسطاء، من الشبان المراهقين وحتى النساء الكبيرات منحنيات الظهر بفعل السن؟

العربي، الذي يثير عاصفة ضد الإرهابيين كل يوم، لديه جوابه أيضاً. إن المجازر تجري دوماً في المناطق التي كانت منقسمة في الماضي بين جيش التحرير الوطني والحركيين (عملاء الاستعمار الفرنسي – المترجم).

يقوم العربي بذكر أسماء المجاهدين الذين قتلهم أبناء الحركيين. بالقرب من البليدة، وهي من أهم مدن الولاية الرابعة السابقة  والمنطقة التي تضم رايس، بن طلحة وبوفاريق، قام الإرهابي الذي كان يستعد لقتل مجاهد سابق بتذكيره أنه هو من قتل والده ويجب أن يدفع الثمن. بالنسبة للعربي، الفدائي القديم، فإن هذه الحرب ضد الشعب هي انتقام لا تزال نيرانه مشتعلة بالوقود المنسي منذ حرب التحرير.

علم الاجتماع المتوحش هذا والخاص برجل الميدان لا يجيب على عذاباتنا.

هل يمكن لهذا أن يمنح القوة على إبادة قرًى بكاملها؟ بالنسبة للعربي، فإن الإرهابيين ينتقمون من الفلاحين الذين لم ينضموا إليهم من أجل تطبيق الشرع الإلهي وقبلوا بالخضوع لقانون الفرعون. كان قتل القرويين مباحاً ومرغوباً به لأنهم سمعوا صوت الله عبر أفواه الإرهابيين، ولم ينضموا إليهم في هذا السبيل. كانت المجزرة الجماعية انتقاماً من الفلاحين. في منطقة كثيفة الأشجار في منطقة بوفاريق، فاجأ محمود ورفاقه الوطنيون مجموعة إرهابية لحظة رميهم لطفل في فرن. سحبوا الطفل الذي تعرض لحروق من الدرجة الثالثة. تعقبوا الفارين ولكن محمود ألقى القبض على أحد الإرهابيين. كان نفس السؤال، الذي نهجس به، يؤرق عقل محمود. سأل محمود الإرهابي: لماذا تقتلون الأطفال، ما الذي فعلوه؟ أجابه الإرهابي بكل هدوء أنهم يطبقون فتوى لابن تيمية توصي بقتل جميع المغول، حتى الأطفال الرضع لأنهم سوف يصبحون مغولاً حين يكبرون ويرتكبون الشرور على الأرض. أضاف الإرهابي أنه، بذلك، يتم إنقاذ هؤلاء الأطفال من المعصية ويذهبون إلى الجنة لأنهم ماتوا في سن البراءة. لأنهم إنسانيون إذن يرتكب الإرهابيون الجرائم! إن هذه المجازر الجماعية مستحيلة الحدوث لولا فكرة الطائفة الناجية، أياً تكن هذه الطائفة. لم يقم محمود بقتل الإرهابي. إنه يتبع القانون الوضعي. منذ وقت بعيد، هجر الفكر الديني، الذي يتمسك بعناد بفكرة المؤمن، نحو الفكر الذي يبني هوية أخرى هي الشعب والوطن.

bouhamidiover-blogcom.over-blog.com

قد يعجبك ايضا