نهاية التاريخ ( قصة قصيرة من الواقع ) / نبيل فضل زاده



نبيل فضل زاده ( مصر ) الجمعة 13/10/2017 م …




كنا فى الثانوية العامة فى اول السبعينيات..وجاء الى المدرسة معلم جديد للرياضيات.وكان فصلنا احد الفصول التى من نصيبه..ولان فصلنا كان هو الفصل المميز فى الفرقة الثالثة. كان يطلق عليه فصل المتفوقين..فقد اعطوه لهذا المدرس الجديد ظنا من ادارة المدرسة ان مستواه متواضع..واننا كمتفوقين اذكياء لسنا بحاجة لمدرس قوى فى مادته.
وبصراحة. فان معظم طلاب فصل المتفوقين..لم يكونوا لهم من هذا اللقب شيئا. فلا هم مميزين. ولا اذكياء..بل مجرد ( حفيظة ) يحفظون المواد. ويجترونها فى الامتحان كما تجتر الدواب…او يرددون ما حفظوه فى الامتحانات كالببغاوات.

خيب الاستاذ عزيز مسيحة امل الادارة..وكان قديرا فى مادته..مخلصا فى شرحه..واعتمدنا عليه اعتمادا كليا..ماعدا بعض المتواضعين فى الذكاء الذين اعتمدوا على الدروس الخصوصية لكى يحفظهم معلمهم طريقة حل المعادلات الرياضية بدون تفكير…وهو ما صارت اليه طرق التعليم فى مصر مع انهيار المنظومة التعليمية وكل الوطن فى السبعينيات
عرفنا ان الاستاذ مسيحة يرفض اعطاء دروسا خاصة من زملائنا فى الفصل والفصول الاخرى الذين طلبوا منه هذا الطلب

لم تكن ماسبق هى المميزات الوحيدة للاستاذ عزيز…ولكن الاهم كانت شخصيته القوية فى الحق والمبدا…وتمكن ببساطته النزول بسنه ووضعه لمستوانا كتلاميذ…كان سنه وقتها قد تخطى ال 39 ولم نكن نعرف شيئا عنه او اى معلومات خاصة. ولكننا تاكدنا انه غير متزوج لانه لا يضع دبله فى إصبعه.

لم يكن الاستاذ عزيز ليضيع لحظة فى الحصة هباء..ولكنه كان يقول اقوالا وامثلة بشكل عرضى اثناء الشرح….ولانه احب فصلنا بشكل خاص…فكان ياتى الينا فى الحصص التى يغيب فيها مدرسها ليتكلم معنا. ويناقشنا فى مشاكلنا واهتماماتنا..ويحدثنا عن فترة المراهقة التى كنا نعبرها ( سن معظمنا حوالى 17 سنة ) كما كان يكلمنا فى امور سياسية واقتصادية لم نكن نستوعبها..ولكننا كنا نهتم بكلامه عن الحب والجنس والبنات اكثر.

حدثنا الاستاذ عزيز عن العدالة والصراع الطبقى..وعن الكادحين. واصحاب المصلحة فى رقى الوطن..وعن الاستغلال الراسمالى…ولكن معظم التلاميذ لم يفهموا شيئا ولم يهتموا. فقد كانت لهم طموحاتهم الخاصة بهم . حيث اصبحوا جميعا اطباء.وكانوا وقتها يحلمون بالثراء والغنى…..ولكنى أنا أتابعه بشكل خاص.

لم يكن الاستاذ مسيحة يهتم بالدين…ولم تات مفردة الديانة على لسانه…ولولا اسمه لما كنا عرفنا انه مسيحى.. طلبت منه المدرسة ان يدرس الدين المسيحى لبعض الفصول نظرا للنقص فى المعلميين الاقباط…ولكنه رفض. على الرغم من ان هذا الموضوع سيكون باجر اضافى.
بعد تخرجى بمدة طويلة ، تصادف وان عرفت قصة الاستاذ عزيز من زميل من نفس قريته وهى قرية بضواحى الزقازيق ، كانت القرية تلك التى انجبت المفكر الشيوعى التقدمى ، سلامة موسى. رائد العلمانية والمادية الجدلية فى مصر. والمفكر الشهير.
وعرفت ان الاستاذ عزيز سجن سنة 59 لانه كان عضوا بالحزب الشيوعى المصرى…وخرج من المعتقل عام 64… وانه كان عضوا بالتنظيم الطليعى. الذى كان يعده عبد الناصر ، للحفاظ على مكاسب الشعب. وللتطوير نحو النظام الاشتراكى الراديكالى..
واتت فترة السادات وتم حل المنظمة الناصرية الطليعية…..ثم اعتقل مرة اخرى عقب اتفاقيات كامب ديفيد..ولم يخرج الا فى منتصف الثمانينيات…واكمل باقى مدة الوظيفة..بلا اهتمام واصابه الاحباط والاكتئاب.. وهو يرى انهيار الامال والوطن والايديولوجية الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتى…وتفرد الإمبريالية الامريكية بالسيطرة على العالم ،  و( نهاية التاريخ).

عاش الاستاذ عزيز مسيحة فترة التقاعد فى بيته بقريته وحيدا…واصابه مرض السكرى بالهزال والمضاعفات…ولم يكن هناك بد من ان يلجا لدار المسنين….وهى مؤسسة خاصة مكلفة ماديا بشكل يفوق معاش التقاعد…ولا يجد فائضا لشراء ادوية.وعلاج التامين الصحى المجانى لا يفيد ولا يفى بحالته.. ما اضطره لبيع بيته للإنفاق على نفسه من فوائد الرصيد.. ولكنه أشد ما أحزنه ضياع المكتبة التى جمع كتبها طوال العمر… ولم ياخذ منها الا القليل معه الى دار المسنين.

قد يعجبك ايضا