سورية والعراق: من التحوّلات الميدانية إلى التحوّلات السياسية / زياد حافظ

زياد حافظ * ( الإثنين ) 18/9/2017 م …




فجأة وبعد حالة أنكار غريبة يركّز الاعلام الغربي والعربي على التطوّرات العسكرية التي تحصل في الميدانين السوري والعراقي.  المقالات والتعليقات والمداخلات التلفزيونية وغيرها من وسائل التواصل العام والخاص تغصّ بمعلومات وآراء متعدّدة.  معظم هذه الآراء تجمع على أن التطوّرات الميدانية ستحمل تطوّرات سياسية.  فما هي هذه التحوّلات السياسية المرتقبة؟

في رأينا لقد بدأت منذ فترة التحوّلات السياسية على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي لأن التحوّل الاستراتيجي حصل مع إيقاف المشروع الأميركي في العراق، وصمود المقاومة في لبنان وغزّة، ومع صمود سورية في وجه العدوان الكوني.  أما التداعيات السياسية فهي متعدّدة.  فلا يمكن إجراء مقاربة للتحوّلات الدولية دون مقاربة انعكاساتها إقليميا وعربيا، وكما لا يمكن قراءة المشهد الإقليمي بعيدا عن التطوّرات الدولية والعربية، وأخيرا لا يمكن فهم التطوّرات في المشهد العربي دون الالتفات إلى التحوّلات الدولية والإقليمية.  فأي قراءة لأي مشهد تصبح قراءة متعددة الأبعاد.

فعلى الصعيد الدولي نشهد بروز كتلة سياسية وجغرافية وبشرية واقتصادية وعسكرية في العالم أكبر وأفعل من مجموعة “المجتمع الدولي” المكوّن أساسا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك منذ تبيّن أن الهيمنة الأميركية تتعثر في مطلع الألفية الجديدة.  المجموعة الجديدة هي مجموعة البريكس.  لن نسترسل في سرد تطوّرات التي رافقت نشأة البريكس بل نكتفي بما حصل في اللقاء الأخير لقمة تلك الدول التي عُقدت في مدينة زيامين الصينية. فالقمة الأخيرة لها دلالات عديدة إضافة أنها المدينة التي كان عمدتها في السابق الرئيس الصيني الحالي زي جين بينغ.

الدلالة الأولى تكمن في طريقة الاستقبال الحار والفائض في الاحترام لمسؤولي الدول المشاركة خلافا عن الاستقبال الرسمي والمتعالي (والبارد أحيانا) الذي يحصل في الغرب تجاه الدول التي تعتبرها دول الغرب أقل شأنا (لا ننس دفع الرئيس الأميركي لرئيس الجبل الأسود في اجتماع قمة الأطلسي الأخير أمام الشاشات).

الدلالة الثانية هي مضمون المحادثات سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.  ففلسفة هذه المجموعة هي الاستقرار ضمن حدود القوانين الدولية واحترام الدول وبهذا تختلف مع دول “المجتمع الدولي” التي تضرب عرض الحائك المواثيق الدولية والقانون الدولي.  فقرار رفض أي مغامرة عسكرية في الأزمة الكورية كان بمثابة “نقض” لبعض التوجّهات الأميركية التصعيدية تجاه كوريا الشمالية.  ويأتي هذا التوافق بعد اهتزازات في العلاقات بين الصين والهند ومحاولات الأخيرة في بلورة مبادرة منافسة لمبادرة الحزام والطريق الواحد، وذلك مع اليابان وبعض الدول الإفريقية تحت عنوان الممر الإفريقي الاسيوي للنمو.

أما على الصعيد الاقتصادي فكانت القرارات تثبّت المضي في إنشاء منظومة مالية دولية مستقلّة عن الدولار ما يحصّن الاستقلالية السياسية التي تتسم بها هذه الدول.  وعلى ما يبدو فإن هذا التوجّه يقلق الإدارة الأميركية التي وجّهت على لسان وزير المال ستيفين منوخين تحذيرا للصين بمنعها من “الدخول إلى النظام المالي الأميركي والدولي للدولار” كما ذكر موقع “فورين بوليسي” و”روسيا اليوم”.  جاء هذا التحذير بعد اعتراض الصين على عقوبات قاسية بحق كوريا الشمالية غير أن التهديد الأميركي أبعد من ملابسات الأزمة الكورية.  غير أن الصين وحلفائها ماضون في إنشاء المنظومة المالية الموازية للدولار لردع الهيمنة الأميركية على العالم من الناحية الاقتصادية. فما يحصل في الميدان السوري والعراقي يُترجم على الصعيد الدولي بالمزيد من الاستقلالية عن الهيمنة الأميركية.

الدلالة الثالثة، وهي ربما الأهم في اللقاء الأخير، هو الانفتاح على العالم. فدعوة مصر وغينيا وتايلاند والمكسيك وطاجكستان ترمز إلى إقناع العالم أن الغرب ليس المرجع الوحيد للقرار السياسي والاقتصادي العالمي.  دعوة مصر لها دلالات عديدة. فعبر مصر تدخل البريكس الوطن العربي كما تركّز وجودها في القارة الإفريقية مع وجودها في الجنوب عبر جمهورية جنوب إفريقيا إحدى الدول المؤسسة لمجموعة البريكس، ووجود غينيا الغنية بالموارد الطبيعية من معادن (بوكسيت، ذهب، الماس) والتي رفضت منذ استقلالها الهيمنة الفرنسية على مقدّراتها.  فهي منذ حكم الرئيس المؤسس للجمهورية الغينية أحمد سيكو توري خارج منطقة الفرنك الإفريقي ٍسي أف آه والنفوذ الفرنسي المباشر. فثلاث دول إفريقية وازنة مشاركة أو مدعوة كمراقب في مجموعة البريكس لها معاني كثيرة أهمها أن الدول المستعمرة القديمة تراجعت سيطرتها وهيمنتها بشكل ملحوظ على القارة الإفريقية.  أما دعوة المكسيك فهي مع البرازيل الدولة في أميركا اللاتينية صاحبة الشأن الاقتصادي الأبرز وعلى أبواب الولايات المتحدة.  فيما بعد نعتقد أن فنزويلا وكوبا ستصبحان ضمن مجموعة البريكس اللاتينية.

أما على الصعيد الأميركي فحالة الإرباك هي المسيطرة على كافة مفاصل الإدارة والحكم.  فالتحوّلات الميدانية في سورية والعراق لا تساعد على حسم الإرباك.  فمن جهة هناك نزعة الرئيس إلى عدم التورّط في حروب جديدة ومن جهة أخرى هناك نزعة القيادات العسكرية التي لا تعرف كيف تنهي الحروب لتقلّل من خسائرها.  فبعد الحرب العالمية الثانية لم تربح الولايات المتحدة حربا في العالم رغم انخراطها في حروب مستمرة والان هي منخرطة بشكل أو بآخر في حروب في سبع دول دون نتيجة إيجابية لها تذكر. فالميل الطبيعي عند القيادات العسكرية هي المزيد من التدخل لأنها لا تستطيع أن تقرّ بهزيمة ميدانية.  هذا هو الحال في أفغانستان والعراق وسورية واليمن والصومال وباكستان وكاميرون.

هنا لا بد من ملاحظة تطوّر جديد في موقف المؤسسة العسكرية وهو عدم الرضوخ لمشيئة الكيان الصهيوني.  هناك دلائل عديدة عن ذلك التحوّل الذي بدأ منذ بضعة سنوات في جلسات استماع للقيادات العسكرية في الكونغرس الأميركي مفادها أن سياسات حكومة الكيان تهدّد الأمن العسكري للقوّات الأميركية في المشرق العربي.

أما الحضور العسكري الأميركي في الساحتين العراقية والسورية فهو محدود ولا يستطيع تغيير المعادلات الاستراتيجية التي ترسم في الميدان.  كل ما يمكن أن تفعله هو محاولة في إمساك ورقة في التفاوض.  فروسيا التي تقود الحملة السياسية للحل السياسي للصراع في سورية تحرص على حفظ ماء الوجه الأميركي دون أن يسبّب ذلك أي ضرر لمصالحها في سورية والعراق وعامة المشرق، ولكن كل ذلك يُبقى اليد العليا لروسيا وحلفائها الإقليميين والدولة السورية.

وأخيرا على الصعيد الأوروبي فبات واضحا أن الدول الوازنة في الاتحاد تجنح إلى الإقرار بالهزيمة الميدانية والسياسية في سورية وتحاول التخفيف من الخسائر وحفظ دور ما في المعادلة السياسية الجديدة وربما المساهمة في إعادة إعمار سورية.  فالاتحاد الأوروبي يتعرّض لهزّات عديدة وقوية نتيجة سياسات خاطئة أدّت إلى تدفّق اللاجئين من سورية والعراق ما مسّ بالأمن القومي الداخلي لدول الاتحاد.

من التحوّلات الميدانية إلى التحوّلات السياسية (II)

أما على الصعيد الإقليمي فالدور المتنامي للجمهورية الإسلامية في إيران يشكّل تغييرا نوعيا في المعادلة القديمة التي كانت تضم كل من إيران الشاه وتركيا والكيان الصهيوني.  فحتى تركيا بدأت تبلور خيارات تدلّ على توجهّ نحو الشرق بدلا من الغرب.  قصر نظر الاتحاد الأوروبي في رفض انضمام تركيا إليه فرض ذلك التحوّل.  والجمهورية الإسلامية في إيران كانت حريصة، مع حليفها الاتحاد الروسي، على احتواء تركيا وقد نجحا بالفعل. فخيارات تركيا تحت حكم اردوغان أصبحت محدودة ولا مفر من الانخراط في المحور الآسيوي الجديد.  من هنا نفهم صفقة الصواريخ الدفاعية الروسية S400 مع تركيا.  الجدير بالذكر هنا أن الكيان الصهيوني حاول الحصول عليها وفشل كما فشل في منع بيعها إلى تركيا.  فهل هذا تمهيد لخروج تركيا من الحلف الأطلسي؟

أما على صعيد الكيان الصهيوني فهو يسجّل التراجعات المتتالية.  فصورة دولة التفرقة العنصرية التي يريدها الكيان أخسرته الكثير من التأييد الذي كان يحظى به في العديد من الدول الأوروبية وحتى في الولايات المتحدة.  من جهة أخرى رضخ الكيان للمنتفضين في الأقصى وفي المعتقلات عبر إضراب الأمعاء الخاوية التي نقلتها مواقع التواصل الاجتماعي العالمي بعد إخفاق الاعلام المهيمن الرسمي والمولي للكيان في نقل الصورة.  المواقع الإلكترونية عديدة في العالم تندّد كل يوم بالأعمال الإجرامية التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني ما يساهم في تراجع التعاطف إن لم يلغه كليّا.  ومن تجلّيات ذلك التراجع التصويت في إحدى هيئات الأمم المتحدة (اليونسكو) على أن لا حق لإسرائيل في مدينة القدس وخاصة الشق العربي من المدينة، وأن مدينة الخليل والحرم الابراهيمي جزء من التراث العالمي ولا يحق للكيان تغيير معالمهما.  كما أن تعاظم حملة مقاطعة البضائع والاستثمار وفرض العقوبات بي دي أس في أوروبا والولايات المتحدة حتى ضمن الجاليات اليهودية دليل على تراجع مكانة الكيان الصهيوني وعدم فعّالية الدعاية الصهيونية.

من معالم التراجع الصهيوني تراجع الكيان في التأثير على مراكز القرار والنفوذ في العاصمة الأميركية.  في مقال لموقع “فيترانز توداي” جاء فيه أن التصعيد الكلامي لقيادات الكيان ضد الجمهورية الإسلامية في إيران يعكس الهلع الذي يسود قيادة الكيان بعد تعثّر جهود نتنياهو في إقناع الإدارة الأميركية في ضرورة التدخّل العسكري في سورية.  وموقع “فيترانز تودي” يعود لقدامى المؤسسات الاستخبارية الأميركية ويضّم أهم العقول والمحلّلين العسكريين والسياسيين.  وهم على تناقض مع سياسات رموز الدولة العميقة التي يعرفونها جيّدا كونا كانوا جزءا منها في السابق وما زالوا على تواصل وثيق مع من يعمل داخلها حتى الآن.  لذلك قراءتهم قراءات مدروسة ومبنية على معطيات ليست دائما في التداول وتتجاهلها عمدا وسائل الاعلام المهيمن عندما تتوفر.  على سبيل المثال نذكر المقالات العديدة التي تفنّد مزاعم الإدارة والاعلام المهيمن في استعمال الجيش العربي السوري للسلاح الكيمياوي في مختلف محطّات الصراع في سورية.

وعلى ما يبدو فإن الرموز المؤيّدة للكيان داخل البيت الأبيض وداخل الإدارة وأروقة الكونغرس لا تستطيع إقناع من يمسك بمفاصل الدولة العميقة لتجيير قراراتها لمصلحة الكيان إلاّ بالحد الأدنى. فحتى الساعة لم يتم نقل السفارة الأميركية إلى القدس كما لم يقبل الرئيس الأميركي بمهاجمة سورية وإيران. أقصى ما يمكن أن يقدّمه هو المزيد من العقوبات على إيران دون المساس بالاتفاقية.

الخلاف في الأولويات واضح.  إدارة ترامب تركّز على محاربة داعش بينما حكومة الكيان تعتبر أن “الخطر الإيراني” هو أكبر.  جاء ذلك في مقالة لإيتمار رابينوفيتش على موقع “بروكنز″. رابينوفيتش كان في السابق سفيرا للكيان في واشنطن واليوم هو أستاذ جامعي.  يشاطره في هذا الرأي قائد السلاح الجوي للكيان الصهيوني الذي يعتبر أنه يمكن التعايش مع داعش في سورية ولكن من المستحيل التعايش مع الجمهورية الإسلامية وحليفها حزب الله.  إذا التباين واضح بين الولايات المتحدة والزعيق الصهيوني خير دليل أن وجهة النظر الصهيونية لا تجد آذانا صاغية لها في الإدارة.

كما أن الادعاء الصهيوني بأنه اخترق القارة الإفريقية وحوّل الموقف التاريخي لمعظم دول القارة من مناصرة للحق العربي إلى الحياد في الحد الأدنى وإلى التأييد للموقف الصهيوني في الحد الأقصى أصيب بنكسة كبيرة بعد صدور قرار تأجيل القمة الإفريقية الصهيونية في توغو.  ويأتي هذا التراجع بسبب الضغط الشعبي والرسمي لعدد من الدول العربية ما يشير إلى هشاشة الادعاءات عن الغياب العربي أمام الكيان الصهيوني.

وأخيرا وليس آخرا هناك فقدان الكيان الصهيوني القدرة على التأثير على قرارات الجامعة العربية.  فاللجنة التي تُشكّلها الجامعة بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية لمنع الكيان من حصول على مقعد دائم في مجلس الأمن يشكل تطوّرا هاما وينقض ادعاءات الكيان بأن الدول العربية أصبحت تريد التطبيع.

ما يبقى للكيان الصهيوني من أوراق هو القليل.  يحاول الكيان الصهيوني استخدام الورقة الكردية.  فما جاء في مقال نشرته صحيفة يديعوت اهارونوت للأستاذ الجامعي يارون فريدمان هو تلازم المسار الكردي مع الكيان الصهيوني. فالتحريض الصهيوني على المضي بالانفصال هو لإرباك كل من الجمهورية الإسلامية في إيران والعراق وتركيا وسورية كما هو أيضا لإحراج الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي.  فالفوضى التي يمكن أن ينتج عن عملية الانفصال قد تخدم بشكل مباشر المصالح الصهيونية.  قد تكون الورقة الأخيرة التي يمكن أن يلعبها الكيان قبل التسليم بالهزيمة أو اللجوء إلى الحرب.  نشير هنا إلى سلسلة مقالات الدكتورة نيفين مسعد في صحيفة الأهرام حول المسألة الكردية وفرص نجاح/فشل المغامرة الكردية.  أما بالنسبة للخيار العسكري فقائد السلاح الجوي الصهيوني أعرب عن ثقته بأن جيش الكيان يستطيع هزم حزب الله بمفرده ولكن لا يستطيع هزم إلاّ مع تدخل الولايات المتحدة.  لكن هل هذا ممكن ضمن المعادلات الجديدة؟ نشكّ في ذلك لأن الولايات المتحدة عاجزة عن الدخول في حروب جديدة لاعتبارات عديدة تعود لجهوزية القوّات المسلحة والمزاج العام الأميركي الرافض لأي حرب جديدة.

من التحوّلات الميدانية إلى التحوّلات السياسية (III)

عرضنا في المقال السابق بعض التحوّلات الدولية والإقليمية الناتجة عن التحوّلات الميدانية في كل من سورية والعراق.  وكما ذكرنا سابقا فإن المشهد الدولي لا ينفصل عن المشهد الإقليمي والعربي.  وكذلك الأمر بالنسبة للمشهد العربي.  ففي السياق العربي نبدي الملاحظات التالية.

أولا-كانت الإنجازات الميدانية في كل من العراق وسورية إضافات عزّزت الدور الإيراني وعلى حساب دور حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدمتهم دولة الكيان الصهيوني وفي الجزيرة العربية حكومة الرياض ومجلس التعاون الخليجي.  ففي هذا السياق، نعتبر أن فعّالية مجلس التعاون ككتلة سياسية مهيمنة على المشهد السياسي العربي خلال العقد الماضي تراجعت بشكل ملحوظ بعد انفجار الأزمة بين حكومة الرياض وحكومة الدوحة.

ثانيا-إن قراءتنا لتلك التطوّرات تفيد بأن مصر لعبت دورا مفصليا في تحييد دور مجلس التعاون التي كانت تقوده حكومة الرياض.  لذلك أصبحت حكومة الرياض مكشوفة وأضعف بعد الإخفاق المدوي في كل من اليمن والعراق وسورية وحتى في لبنان مع “تحرّر” نسبي لرموز لبنانية موالية لها من توجهّات كادت تبعدها نهائيا عن السلطة.  ونضيف إلى كل ذلك تراجع سعر برميل النفط الذي أثّر بشكل مباشر وكبير على قدرة حكومة الرياض في الاستمرار في سياسة الانفاق الداخلي والخارجي العبثي في آن واحد.  كما أن الابتزاز الأميركي لحكومة الرياض أفضى إلى شفط ما يقارب 450 مليار دولار من احتياطها المالي.  وبغض النظر إذا ما تمّ دفع تلك المبالغ أو لا فإن الانطباع في مجمل الأوساط المراقبة هي تراجع القدرة المالية لحكومة الرياض في التأثير على القرار العربي بشكل عام وبالتالي على الصعيد الإقليمي والدولي.

دور مصر في إفشال قمة ترامب ونتائجها السياسية المرتقبة لتشكيل حلف أطلسي عربي سني في مواجهة إيران وتلقائيا محور المقاومة كان عبر الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي في قمة الرياض التي جمعت قادة من الدول العربية والإسلامية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.  فمصر تستعيد تدريجيا وعلى خطى ثابته استقلالية قرارها السياسي.  فمن جهة حافظت على التواصل والتفاهم مع حكومة الرياض حتى في المغامرة غير المحسوبة في العدوان على اليمن وعلى محاربة جماعات التعصّب والتوحّش والغلو التي دعمتها حكومة الرياض بشكل مباشر وغير مباشر.  وبالتالي استطاعت أن تحيّد في الحد الأدنى حكومة الرياض تجاه توجّهات مصر وفي الحد الأقصى الاستفادة من المساعدات المالية.  غير أن إصرار الرئيس المصري في خطابه في القمة على إدانة كل من يموّل الإرهاب فجّر العلاقة مع حكومة الدوحة، وبالتالي وحدة الموقف في مجلس التعاون.    ومن المفارقات التي نتجت عن تلك القمة هي الانفصام في المواقف.  فمن جهة كانت بعض قرارات تلك القمة إدانة لجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس وحزب الله، ومن جهة أخرى فتحت مصر صفحة جديدة من العلاقات مع حركة حماس.  فترميم العلاقة بين مصر وحماس يقلق الكيان الصهيوني وينسف نتائج قمة الرياض في حلف سني يخدم أهداف الكيان.

من جهة أخرى وبعد خمسين سنة على خروج مصر من اليمن تحت ضغط حكومة الرياض وما رافقها من شبهات بدور الأخيرة في العدوان الصهيوني على الجمهورية العربية المتحدة أصبحت مصر من يستطيع إخراج بلاد الحرمين من التعثّر في اليمن عبر احتواءها وليس عبر احتواء حكومة الرياض لمصر. قد ينقلب المشهد كلّيا وذلك بسبب حكمة ودقّة السياسة المصرية في الملفّات المعقّدة.

ثالثا-أما على صعيد علاقة مصر بالكيان الصهيوني فرغم كل التصريحات الرسمية بين الدولتين فهناك أنباء مصدرها وسائل الاعلام في الكيان الصهيوني تفيد أن صفقة الأسلحة الأخيرة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والتي تشمل تسليم 17 طائرة من طراز أف 35، هي لمواجهة “العدو” المصري!  كما أن المشروع الصهيوني لربط المتوسط بإيلات عبر قناة يمر بالأردن هو تهديد مباشر للأمن القومي المصري لأنه تعدّي مباشر على قناة السويس.

رابعا-إن قرار جامعة الدول العربية بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية في إنشاء لجنة مهمتها العمل على منع حصول الكيان الصهيوني على مقعد دائم في مجلس الأمن لم يكن ليحصل لولا مباركة مصر.

خامسا-إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العقيدة القتالية للجيش في جمهورية مصر العربية هي أن العدو هو الكيان الصهيوني، وبما أن الكيان لم يعد يخف نظرته العدائية لمصر ففي رأينا فإن الخط البياني للعلاقة بين مصر والكيان سيصل إلى تفريغ اتفاقية كامب دافيد من مضمونها في فترة قد لا تكون بعيدة.  عندئذ يكتمل دور مصر في التوازن الإقليمي والدولي وعلى الصعيد العربي.  وما قد يسرّع في ذلك التحوّل العداء الأميركي لمصر المتمثّل بقرارات الكونغرس الأميركي بتخفيض ملموس للمساعدات الأميركية وربطها بقرارات تمسّ السيادة المصرية.  هذا ما لا تقبله مصر وقد يحرّرها من الجنوح إلى الولايات المتحدة.  لم تصل الأمور حتى الآن إلى القطيعة مع الولايات المتحدة عير أن الحكومة المصرية بادرت منذ فترة بتبنّي سياسة التوازن وتنويع مصادر تسليحها ونسج علاقات مع البريكس التي تُوّجت بدعوتها لحضور القمة الأخيرة لها.

من التحوّلات الميدانية إلى التحوّلات السياسية (IV)

التحوّلات الميدانية في كل من العراق وسورية ستشكّل قاعدة للتحوّلات السياسية في المشرق العربي بشكل مباشر.  فالتلاقي الميداني بين قوات الجيش العربي السوري وحلفائه وفي طليعتهم المقاومة مع قوات الجيش العراقي وحلفائه على الحدود له دلالات عديدة.

أولا-أن التلاقي هو الرد القومي على تجاوز مفهوم الحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية والذي حاول تسويقه مشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام على حد زعمه.  فالتلاقي على الحدود يكرّس وحدة الدم العربي في مواجهة المشاريع التقسيمية والتفتيتية التي يحاول الحلف الصهيوأميركي فرضه على بلاد الشام وبلاد الرافدين. وهذا التلاقي يحاكي ويشفي غليل المواطن العربي الذي ينادي إلى وحدة الصف والموقف والتكامل تمهيدا عند تسمح الظروف الموضوعية والذاتية لتحقيق الوحدة، حلم أبناء الأمة.

ثانيا-إن تصريح القائد الميداني لقوّات حزب الله على الحدود السورية العراقية وتأكيده على عروبة العراق هو الرد الميداني على ما حاول المحتل الأميركي تحقيقه في نزع عروبة العراق عن دستوره.  كما هو تأكيد على إفشال تقسيم العراق إلى كيانات مذهبية متناحرة.  فالعروبة تجمع أبناء الأمة بينما الطروحات الأخرى تفرّق بينهم.

ثالثا-إن تأكيد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله أن الرئيس السوري بشّار الأسد هو القائد لمحور المقاومة يؤكّد أولا على قومية المعركة في وجه جماعات التعصّب والغلو والتوحّش، وثانيا، أنها تنفي الادعاءات المشكّكة في الدور العربي لمحور المقاومة.  فالتحالف مع الجمهورية الإسلامية في إيران هو تحالف ندّي وليس تحالفا تابعا لأي جهة إقليمية أو دولية.

رابعا-إن قرار الرئيس السوري بالتوجّه نحو “الشرق” على صعيد السياسي والاقتصادي يشكّل نقلة نوعية مفصلية قد تُخرج نهائيا الغرب من التأثير في الأقطار العربية في منطقة شرق الأوسط.  إن التلاقي الميداني السوري العراقي يواكب التلاقي السوري مع العمق الآسيوي أولا مع إيران وثانيا مع دول البريكس.  هذا التلاقي يربط بحر الصين ببحر المتوسط بشك غير منقطع رغم محاولات الولايات المتحدة في قطعه بتواجده المتعثّر في أفغانستان.

هذا الصمود ثم النصر التاريخي والأسطوري بدأت انعكاساته على المحور المناهض لمحور المقاومة.  فالسجال المؤسف الذي شهدنا في اجتماع على مستوى المندوبين في الجامعة العربية يعيدنا إلى ما شهدناه منذ ست سنوات عندما تمّت مخالفة ميثاق الجامعة بتعليق عضوية دولة مؤسسة لها أي الجمهورية العربية السورية.  إن السياسات العبثية التي اتبعتها بعض الدول الخليجية بدءا من تغطية احتلال العراق إلى تغطية العدوان الأطلسي على ليبيا إلى العدوان الوحشي على اليمن والعدوان الكوني على سورية أتت أكلها.  فمن استثمر في احتلال العراق وفي الفتنة المذهبية يحصد ما زرعه من مأسي وخيبات أمل وتراجع في المصداقية والنفوذ.  وهذا التراجع قد ينعكس سلبا في داخل هذه الدول التي استسهلت المراهنة على الخارج.  هذا المشهد لا يُفرحنا بل يؤلمنا.  والجامعة العربية مدعوة اليوم قبل غدا أن تقوم بمراجعة جذرية وجريئة لسياساتها منذ تغطيتها لاحتلال العراق حتى الساعة.  ولا تكتمل هذه المراجعة في المؤسسة وفي الدول المؤثرة فيها إلاّ بعد الرجوع إلى مقاومة الغرب والكيان الصهيوني.  كما أن المراجعة داخل الجامعة العربية يجب أن يترافق بمشاركة الشعوب فجامعة الدولة العربية مقتصرة على الحكومات وتقصي الشعوب وهذا لم يعد ممكنا.

إن التحوّلات في العراق وسورية ستكون حبلى بتطورات على الصعيد السياسي والاقتصادي في المشرق العربي.  فعلى الصعيد السياسي فإن التلاقي الميداني بين القواّت العراقية وحلفائها مع الجيش العربي السوري والمقاومة وحلفائه يعني أن أي مغامرة قد يقدم عليها الكيان الصهيوني أو حتى الولايات المتحدة والحلف الأطلسي سيواجه بطاقات بشرية ومادية من كل قطر عربي.  هذا هو فحوى رسالة أمين عام حزب الله في أحد خطاباته الأخيرة محذّرا العدو وحلفائه من أي حماقة.  فالجبهة الشرقية التي حاولت الدول العربية في الستينات إيجادها أصبحت قائمة وهذا ما يقلق الكيان الصهيوني.

من التداعيات السياسية أنهاء حالة النفور بين الدولة اللبنانية والجمهورية العربية السورية علما أن شرائح وازنة في تكوين الكيان اللبناني لم تقطع علاقاتها مع سورية رغم سياسة “النأي بالنفس″ العبثية.  موازين القوة تغيّرت والمصلحة اللبنانية تقضي بالتفاهم مع الدولة السورية.  وقد بدأت ملامح التغيير في المشهد السياسي اللبناني حيث رموز التشدّد تجاه سورية بدأت بمراجعة مواقفه للحفاظ على مصالحها.  كذلك الأمر بالنسبة لحكومة الأردن التي تسعى إلى فتح صفحة جديدة مع سورية.

ولا بد لنا من الإشارة أن النصر الذي يتحقّق أمامنا سيكون له انعكاسات كبيرة على الصراع مع الكيان الصهيوني.  فنهج المقاومة ينتصر في لبنان وسورية والعراق، وبطبيعة الحال في فلسطين. نتوقّع نقلات نوعية في نهج المقاومة في فلسطين بعد ترتيب البيت الداخلي وعودة بعض الفصائل إلى نهج المقاومة وليس التفاوض.  فما زالت اللاءات الشهيرة في قمة الخرطوم منذ خمسين سنة صالحة اليوم.

وإذا ربطنا هذه التحوّلات مع التصدّع في مجلس التعاون والعودة التدريجية لدور مصر فإن ملامح نظام عربي جديد بات على الأبواب.  غير أن التغيير المرتقب يحتاج إلى عمل دؤوب لتكريس استقلالية ذلك النظام وتحصينه من اختراقات التطبيع والتبعية.  فما كان مستحيلا منذ فترة وجيزة أصبح ممكنا بل واجبا.  فهذه هي مسؤولية النخب العربية المسكونة بوحدة هذه الأمة ونهضتها.

أما على الصعيد الاقتصادي فورشة عملية إعادة إعمار خاصة بلاد الشام والتشبيك المرتقب مع بلاد الرافدين بالنسبة للبنى التحتية ستجعل المنطقة تشهد فورة اقتصادية لم تشهدها سابقا.  غير أن المشكّكين يثيرون مسألة التمويل الممسوك من المؤسسات المالية الغربية ما يعيد دخولها إلى المنطقة.  نعتقد أن البدائل للمؤسسات المالية الغربية موجودة وأن الإمكانيات متوفرة سواء من الصين أو الهند أو روسيا أو دول آسيوية أخرى تدور في فلك البريكس خاصة وأن كل من العراق وسورية تعومان على بحر من النفط والغاز.

في النهاية فإن النصر في سورية والعراق أمام الهجمة الكونية عليهما تحت عناوين جماعات التعصّب والغلو والتوحّش غيّر في المعادلة العربية والإقليمية والدولية.  يبقى استثمار هذا النصر لمصلحة شعوب المنطقة. ونختتم باقتباس ما جاء به الدكتور علي فخرو في مقال مثير قائلا: ” والآن، وبعد أن واجه القطران نفس المؤامرات، من نفس المصادر، بنفس أسلحة الغدر والخيانات من البعيد ومن الإخوة الأعداء القريبين، وبعد أن نجح كل ذلك في نشر الدمار والاقتلاع واضطرار الملايين للخروج إلى منافي الضياع وفي معاناة ستة ملايين من أطفال سوريا وخمسة ملايين من أطفال العراق من المرض والجوع والحرمان من الدراسة والتشرد في الشوارع، وبعد أن ضعفت الدولتان إلى حدود العجز أمام حركات الانفصال والتقسيم وإشعال الصراعات الطائفية والقبلية….. الآن وكلاهما يحصدان ما زرعه ضياع فرصة التوحيد التاريخية التي أشرنا إليها، فان السؤال (…) لا بد أن يطرح نفسه ويستدعي الجواب الواضح الصريح. السؤال: هل تعلم القطران الدرس، وهل سيستفيدان من عبر أوجاع وأهوال الجراح المتماثلة والمشتركة؟

بمعنى آخر هل سيحدثان زلزالاً استراتيجياً في الأرض العربية من خلال توجههما بخطي ثابتة، حتى ولو كانت تدريجية، نحو تبني وتنفيذ خطوات وحدوية في الاقتصاد والأمن الداخلي والخارجي والسياسة والعمالة والنظام المجتمعي المدني والتربية والتعليم وحقوق المواطنة، على سبيل المثال؟

* أمين عام المؤتمر القومي العربي

قد يعجبك ايضا